ضبَط العالم ساعته على إيقاع الانتخابات الرئاسية الأميركية ومجيء إدارة جديدة إلى البيت الأبيض ورحيل إدارة قديمة. وبدأ جميع من تربطه علاقة بالأميركيين بتقدير التداعيات، ورسمِ خرائط الارتدادات بسلبياتها وإيجابياتها على امتداد الكرة الأرضية. والمنطقة ومِن ضمنها لبنان كأساس في هذه الخريطة.هناك من يقدّر أنّه بمعزل عن دخول هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ستكون للانتخابات الأميركية آثارُها الواضحة في أماكن الحضور والوجود والنفوذ الأميركي، وهذا التأثّر، كما يقول خبراء في السياسة الأميركية، سترتفع نسبته أو تنخفض تبعاً للنقطة التي لها مكانتُها وحيّزُها المتقدم في سلّم الأولويات الأميركية.

وإذا كانت منطقة الشرق الأوسط بأزماتها المشتعلة، خصوصاً في سوريا والعراق، ستكون نقطة التأثّر الأولى ربطاً بالحضور الأميركي المباشر في قلب النار المشتعلة في هذين البلدين، فإنّ بعض المستويات اللبنانية قاربَت الحدثَ الأميركي بمبالغات وبحجمٍ مضخّم من الرهانات على تغييرات نوعية في السياسة الأميركية تجاه لبنان، تدفع به إلى موقع متقدّم في أجندة الإدارة الأميركية الجديدة مع ما يترتّب على ذلك من نتائج ترسم صورةً للبنان جديد.

إلّا أنّ قراءة الخبَراء في السياسة الأميركية تقارب وضعَ لبنان ربطاً بالانتخابات الأميركية وفقَ المشهد التالي:

- إنْ كانَ لبنان سيتأثر بتغيّر الإدارة الأميركية، فسيتأثر من خلال تأثّرِ المنطقة، وتحديداً سوريا.

- لبنان الخارج من ولادة رئاسية ناجحة كان ولا يزال لا يشكّل عنواناً أوّلاً في الكتاب الأميركي. وبالتالي قد تنطبق على هذا البلد مقولة «القديم على قِدمه»، إذ إنّ هناك مجموعة ثوابت أميركية أو قواعد عمل أميركية متبنّاة تجاه لبنان، ستبقى قائمة على ما هي، بصرفِ النظر عمَّن سيَدخل إلى البيت الأبيض، كلينتون أو ترامب:

• أوّلاً، إستقرار لبنان، فهو يشكّل قاعدةَ عملٍ مثبَّتة في لبنان، وعلى الأقلّ منذ اشتعال الأزمة السورية، علماً أنّه استقرار ذو وجهين، وجهُه الأوّل الاستقرار الأمني، والثاني الاستقرار المالي.

فالاستقرار الأمني، تضعُه واشنطن في عين الرعاية من خلال التبنّي الأميركي لحضور الجيش اللبناني الفاعل وفاعليته وقوّتِه في حماية هذا الاستقرار، سواء على امتداد الحدود اللبنانية أو على صعيد الإمساك بالأمن في الداخل ومواجهة الإرهاب التكفيري في الداخل وكذلك على الحدود مع سوريا.

أمّا الاستقرار المالي، المضبوط ضمن الدائرة التي تُرضي الأميركيين، فتضمّنَ عدمَ تمرير أيّ شيء لا تريده واشنطن، وثمّة شهادة تقديرية أميركية لإدارة الاستقرار المالي اللبناني، إلى حدّ أنّها تعتبر لبنان مثالاً في الإدارة المالية يمكن أن يُعمَّم على دوَل مجاورة للبنان تعاني بواقعها المالي والاقتصادي.

• ثانياً، الجيش كمؤسسة عسكرية، التي تعتبر واشنطن أنّ له خصوصيةً أميركية دائمة ومستمرّة، ولطالما شكّل الجيش مدخلَ النظرة إلى لبنان طوال المراحل السابقة، وثمّة ثوابت أميركية مرتبطة بالحيش:

- الأولى، إستمرار دعمه بكلّ المقوّمات الضرورية ولو بالحد الأدنى، لكي يبقى على تماسكِه وحاضراً في الميدان.

- الثانية، تجاوُز الأثر السلبي لوقفِ الهبة السعودية وتعويضها بما يؤمّن ولو الحد الأدنى من احتياجاته.

- الثالثة، الإرهاب وحدود لبنان الشرقية وعدم جعلِ لبنان نقطة انطلاق أو ارتكاز له. ومعلوم أنّ الأميركيين وفّروا للجيش وللأجهزة الأمنية كمّاً من المعلومات في المرحلة الماضية ساعدَت الجيش والأجهزة في كشفِ الكثير من الشبكات والخلايا الإرهابية النائمة، وإحباطِ ما كانت تحضّر له من عمليات إرهابية.

- الرابعة، المخيّمات الفلسطينية بما تحويه من عناصر ومواد اشتعال إرهابية تكفيرية أو المصنّفة إرهابية في القاموس الأميركي.

- الخامسة، الحدود الجنوبية وحماية القرار 1701 وضرورة التزامه خصوصاً من الجانب اللبناني.

- السادسة، الخشية الدائمة من «حزب الله» من إمكان إمساكه بلبنان عسكرياً تحت أيّ ظرف، وبالتالي إبقاء الجيش القوّةَ الوحيدة القادرة على ذلك.

• ثالثاً، النازحون السوريون، وهو عنوان متفجّر، وليس خافياً أنّ الأميركيين ومعهم الأوروبيّون وكلّ الدول المتدخّلة في الأزمة السورية تتحمّل مسؤولية تحويل لبنان ملاذاً لهذا العبء الثقيل الذي تجاوَز المليوني نازح، بما يعادل نصفَ سكّان لبنان، ومعلوم أنّ هذا النزوح استهلكَ البنية التحتية اللبنانية، استهلكَ الاقتصاد والمال ولم يُجازَ لبنان في مواجهة هذا العبء إلّا بالفُتات.

والطامّة الكبرى أنّ بعض هؤلاء سعوا إلى تحويل هذا النزوح إلى لجوء دائم. وبالتالي سيبقى هذا الملف عنواناً متفجّراً في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ هناك رؤية لبنانية بمقاربة هذا الملف مختلفة كلياً عن نظرة الأميركيين والغرب وكلّ الآخرين.

• رابعاً، الملف السياسي، عكسَت السياسة الأميركية التي اتُّبعت في السنوات الأخيرة أنّ لبنان لم يكن في جدول الاهتمامات الأميركية، على غرار ما كان سارياً في السابق، خصوصاً في عهد جورج بوش الابن، الذي وصَل في لحظةٍ ما إلى الدخول في تفاصيل الداخل اللبناني وتبنّي نظرية النصف زائداً واحداً حينما كان النائب الراحل نسيب لحّود مرشّحاً للجمهورية.

والجميع يَذكرون أنّه منذ بداية عهد باراك اوباما هبط لبنان من سلّم الأولويات الاميركية إلى الحدّ الذي هو عليه حاليّاً، أي الدعم عن بُعد. وعدم الانخراط في الصراع اللبناني وعدم الدخول في التفاصيل اللبنانية كما كان في السابق.

إلّا أنّ أهمّية لبنان فرَضت نفسَها على الأميركيين من باب الإرهاب، وكذلك من قلبِ العنوان السوري ووجود «حزب الله» ودوره في سوريا وحضوره في جبهات القتال هناك. وطبيعيّ مع مجيء كلينتون أن تستمرّ هذه السياسة، بينما إذا جاء ترامب فالمسألة ستختلف، وما على اللبنانيين إلّا أن ينتظروا النهجَ الذي سيَعتمده حيال لبنان.

أيّ دور للبنان في ظلّ الإدارة الاميركية؟

تتّفق قراءة الخبراء في السياسة الأميركية، مع ما يؤكّده سياسيون لبنانيون بأن لا خلاف على أنّ الكرة في الملعب اللبناني، إذ يستطيع لبنان بمعزل عن أيّ تطوّر خارجي، أكان انتخابات أميركية أو غيرها من الأحداث الخارحية، أن يفرض نفسَه مجدّداً على الخارج وكلّ المسرح الدولي، ويشكّل نقطة استقطاب إيجابية للأميركيين وغيرهم، ويمكن له أن يجذب أيّ إدارة اميركية إيجاباً نحوه، من خلال إعادة تفعيل العلاقات، وضمن سقفِ الأولويات والثوابت وبما يراعي التركيبة اللبنانية السياسية وغير السياسية.

وبالتالي، فإنّ الأمر البديهي مع ما استجدّ أن يسلك لبنان، وبعدما تمّت الولادة الرئاسية بنجاح ومُلِئ الشغور في سدّة الرئاسة الأولى، أن يسير نحو التحصين الداخلي وإعادة بثّ الروح في جسم الدولة، من خلال:

- تشكيل حكومة جديدة تؤكّد على الوفاق الداخلي قبل أيّ أمر آخر. وبعيداً عن النَّهم على الحقائب والاستئثار بها، وعن شهية الاستيزار التي تكاد تأكل الحكومة قبل تأليفها.

- إعادة انتظام الحياة السياسية، والذهاب إلى قانون انتخابي عصري يتيح تمثيلَ كلّ المكوّنات بالعدل والتوازن، بما يعيد إنتاج الدولة كدولة. وعلى ما يبدو هناك حدّ أدنى من التفاهمات والتعهّدات تحت هذا العنوان، سياسية ورئاسية.

- تفعيل حضور المؤسسات الدستورية والإدارية على اختلافها واستعادة دورها.

- معالجة المواضيع والملفات الحياتية اليومية التي لها علاقة بالمواطنين، جميع المواطنين.

- إستعادة هيبة الدولة، ووضعُ حدٍّ للفلتان المستشري على كلّ المستويات.

- في يد لبنان ترسيخُ استقراره السياسي والأمني والاقتصادي والمالي، والاقتناع بشكل نهائي بأنّ لا أحد في الخارج أحرصُ على لبنان من أهلِه. وهذا يفترض الاستفادة إلى أبعد الحدود من الحصانة الأميركية والدولية بشكل عام لاستقرار لبنان، والذهاب إلى خطوات داخلية تحصينية. وهذه إحدى أهمّ مهامّ العهد الجديد.

- كان الأميركيون وغيرهم وما زالوا ينظرون إلى لبنان دولةً تعدّدية نموذجية يمكن أن يُحتذى بها. وثمّة مسؤولون أميركيون أبلغوا زوّارَهم اللبنانيين بأنّ لبنان إنْ نجَح فعلاً في تثبيت الصيغة الملائمة والمحصّنة لتعدّديته، فهو مثال ناجح قابل لأن يُعتمد نموذجه في الشرق العربي تحديداً، وبالتالي يكون بالشراكة والاعتراف بالآخر والتوازن قدوةً للعالم العربي الممزّق.

كما سَمع زوّار آخرون في الفترة الأخيرة من الأميركيين أنّ لبنان بيَد أهله، يستطيعون قيادته، والخارج يستطيع أن يكون عاملاً مساعداً له. يتقاطع هذا الكلام مع ما تبلّغَه مسؤول لبناني كبير من مسؤول كبير في دولة إسلامية بأنّ أمام لبنان فرصة جديدة للانتقال إلى ازدهار اقتصادي إنْ أحسنَ اللبنانيون تعزيز استقرارهم السياسي وتمكّنوا من الحفاظ على بلدهم وعلى استقراره الأمني والتوازنات التي تَحكمه، فبذلك يقدّمون خدمةً كبيرة ليس لأنفسهم ولبنان فقط، بل يقدّمون خدمةً لكلّ المنطقة.

في اللقاء الذي جمعَ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بوزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، أثيرَ موضوع الانتخابات الرئاسية الأميركية، وكان رأي الوزير الإيراني: «يجب عدم الاستهانة أو الاستخفاف بالمعركة الانتخابية القاسية». ولم يعطِ رأياً حول من سيفوز.

أمّا برّي، فعندما سُئل عمّا إذا كان لبنان سيتأثر بالانتخابات الأميركية، قال: تعرفون أنّ باراك اوباما رسّخ سياسة معيّنة... لكن أمام المعركة الانتخابية الجارية بين كلينتون وترامب، «ان شاء الله ما يخلّو العالم تترحّم على اوباما».