في العشرين من يناير 2017، الرئيسة هيلاري أو الرئيس دونالد ترامب سيرث تركة باراك أوباما، تماما مثلما لا يزال أوباما يستخدم فترة ولاية جورج دبليو بوش مرجعية خاصة به. بلمسات واسعة، السياسة الخارجية لأوباما عكست تأرجح البندول بعيدا عما كان يعتبر النشاط العدواني والحروب الطويلة لسلفه. لكن الرئيس المقبل سيقود شعبا يتساءل ليس فقط، ما إذا كانت سياسات أوباما قد أوجدت فراغات شغلتها قوى معادية؟ ولكن أيضا ما إذا كان ينبغي أن تتدخل الولايات المتحدة، وكيف؟
مركز بيو للأبحاث ذكر في أبريل الماضي أن 57 بالمئة من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة ينبغي أن “تتعامل مع مشكلاتها الخاصة” وأن “تترك البلدان الأخرى تتعامل مع مشاكلها الخاصة قدر المستطاع". لكن هناك أغلبية ثابتة تقدمت بأفكار مماثلة منذ الستينات. علاوة على ذلك، هناك أغلبية كبيرة لا تزال توافق على أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن “تتصرف بطريقة مستقلة في المسائل الدولية”.
الأغلبيات في كلا الحزبين تدعم الحملة ضد تنظيم داعش؛ نحو 77 بالمئة يقولون إن حلف الناتو جيّد لأميركا. معظمهم لا يزال يفضل التجارة الدولية، على الرغم من أن الناخبين يشعرون بالقلق من الأجور المنخفضة وفقدان الوظائف. باختصار، الأميركيون غير متأكدين ويشعرون بالقلق، لكنهم ليسوا انعزاليين. يبدو أن الكثير من الأميركيين يشعرون بالقلق من أن بلادهم لم تعد تُحترم بقدر ما كانوا يعتقدون أنها كذلك.
قد يكون الشعب الأميركي يستنتج انطباعات تُشكّل تحديا استراتيجيا للرئيس القادم؛ فالنظام الأمني والاقتصادي القائم منذ 70 عاما، والذي ساعدت الولايات المتحدة على إنشائه بعد الحرب العالمية الثانية وتمّ اعتماده في الأعوام التي تلت، يتصدع الآن تحت الضغط. وبعد حقبة طويلة من السلام بين القوى الكبرى وتحسين الحظوظ الاقتصادية، فالكثيرون يعتبرون النظام الدولي أمرا مفروغا منه. النظام القائم منذ قرن في الشرق الأوسط تفكك وتحوّل إلى صراع وحشي على السلطة بين القبائل والطوائف. وهنالك تلاعب بالفصائل المتحاربة في سعي من بعض أنظمة المنطقة إلى الهيمنة المحلية. البلدان في كافة أنحاء المنطقة تعثّرت بشكل متكرر أثناء محاولتها إقامة اقتصادات سوق حديثة.
تعيينات هيلاري
هناك نجاح واحد كبير في النصف الثاني من القرن العشرين -التكامل الاقتصادي والسياسي السلمي لأوروبا الديمقراطية- يترنّح الآن على حافة التفكك. الهجرات الكبيرة من البلدان المجاورة اليائسة تُرهق السياسة. السياسات النقدية الاستثنائية للبنك المركزي الأوروبي كسبت الوقت، لكن لا يُمكنها وحدها توفير النمو الذي من شأنه تخفيف الضغط.
لم يُقرر الاتحاد الأوروبي بعدُ ما إذا كان سيجعل “خروج بريطانيا” نوعا جديدا من الترتيب الأوروبي، أو درسا مؤلما. الانتخابات الألمانية والفرنسية في عام 2017 ستُحدّد ما إذا كان الوسط -في داخل البلدان وفي جميع أنحاء أوروبا- سيصمد. وفي الوقت الذي ينجرف فيه الاتحاد الأوروبي، كانت روسيا برئاسة فلاديمير بوتين تُعيد رسم الحدود في أوكرانيا وجورجيا، وتهدد دول البلطيق، وتتلاعب بالسياسات الأوروبية والأميركية، وتذكر العالم بصلاحيات قوتها. إذا انقسم الاتحاد الأوروبي أكثر، فمن الممكن أن ينشب صراع القرن الـ21 لتحقيق توازن القوى الأخير في الدراما الطويلة للتاريخ الأوروبي.
في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، السؤال هو: ما إذا كانت بكين ستسعى إلى الهيمنة الإقليمية أو إلى تعديل النظام القائم؟ اليابان والهند وبلدان جنوب شرقي آسيا تعيد تمركز نفسها، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي تعطي فيه الصين علامات على نواياها. في عام 2017، اللجنة الدائمة للمكتب السياسي التابعة للرئيس تشي جينبينج من المتوقع أن تُقدّم اتجاهها في المستقبل، بما في ذلك التحول الاقتصادي بالصين. في شمال شرق آسيا، الأسلحة النووية والصواريخ بعيدة المدى التي تحت سيطرة القائد الشاب، كيم جونج أون، ستتحدى سياسة أوباما “للصبر الاستراتيجي”.
الإدارات الأميركية الجديدة يتمّ تحديد هويتها على أساس العاملين فيها. قد يكون فريق هيلاري تحت ظل شبح السفير ريتشارد هولبروك، الذي حرمها موته من صديق كان من الممكن لنشاطه أن يحرك السياسة. ربما تتحول إلى مسؤولين سابقين معروفين عموما للعالم؛ جيك ساليفان الذي شغل منصب رئيس قسم تخطيط السياسات في وزارة الخارجية حين كانت هيلاري في الوزارة، هو مدير السياسة في حملتها الانتخابية، وتوم دونيلون، مستشار الأمن القومي السابق لأوباما، يعتبر شخصية بارزة في فريق هيلاري الانتقالي.
الأشخاص الآخرون الذين قد يتوقع المرء أنهم سيشغلون مناصب عليا في إدارة هيلاري، مثل ميشيل فلورنوي وجيم شتاينبيرج وبيل بيرنز وكيرت كامبل، هم أيضا يحظون بالاحترام على الصعيد الدولي. هيلاري الرئيسة قد تضيف ضابطا عسكريا رفيعا سابقا إلى هذا المزيج، مثل الأدميرال المتقاعد جيم ستافريديس، الذي يشغل الآن منصب عميد كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس.
لنراقب، أيضا، تعيين ممثل التجارة الأميركي: تعيين فرد ناشط إبداعي، من شأنه أن يشير إلى اهتمام الرئيسة الجديدة بإيجاد مسار عملي سياسيا لجدول أعمال التجارة بعد إنعاشه. التوظيف في إدارة ترامب أمر من الصعب تخمينه لأن الكثير من الجمهوريين من ذوي الخبرة يقفون ضده. أحد المستشارين البارزين هو مايكل فلين، الملازم المتقاعد والرئيس السابق لوكالة استخبارات الدفاع، الذي رافق ترامب إلى جلسات إحاطة المخابرات.
هناك أيضا مسؤولون جمهوريون سابقون من الذين بقوا على الهامش، ربما على أمل أنهم سيشكلون تفكير الرئيس ترامب. الراغبون في أن يؤدوا دور المتمرد توماس كرومويل (الذي ثار على الملكية في إنكلترا) من المرجح أن يكونوا محبطين من طبيعته النرجسية وغرائزه الرعناء. في الواقع قد تكون شخصية ترامب أفضل مؤشر لسياسته الخارجية. تفسيره المفضل هو “كل شيء قابل للتفاوض”. يتصرف في كل حالة على حدة. يترصد المواقف المتطرفة، ثم يقوم بالارتجال.
ترامب معجب بالأشخاص الذين يصنفون على أنهم “أقوياء”، مثل الرئيس بوتين والرئيس الصيني تشي، وحتى الراحل صدام حسين. روسيا والصين تتآمران لتغذية الأنا التي لدى ترامب، مع الاستفادة من جهله في السياسة الخارجية من أجل تخريب تحالفات الولايات المتحدة. ويؤكد ترامب أن الولايات المتحدة أنفقت الكثير من الوقت والمال في محاولة لحل مشكلات العالم، لذلك ربما يكون قانعا بالتنازل إلى الآخرين عن المواضيع المليئة بالمشكلات. لكن لا أحد يعرف كيف سيستجيب غرور ترامب إذا كان نظيره الأجنبي يقلل من شأنه.
ترامب بالتأكيد لا يعطي قيمة كبيرة لموثوقية الولايات المتحدة في التحالفات طويلة الأمد والنظم الاقتصادية. التزامات المعاهدات ستكون عقودا ورقية قابلة لإعادة التفاوض. ترامب يبدو متعجرفا في ما يخص دور الولايات المتحدة في توفير الردع النووي للحلفاء الذين لا يمتلكون الأسلحة النووية (حتى الآن). العلاقات الاقتصادية ستكون محصلتها صفرا، مع نزعة تجارية حمائية محضة. وينبغي للمرء أن يتوقع تهديدات رفع التعرفة والعوائق أمام التجارة والاستثمار، كما أن الرد الانتقامي سوف يؤدّي على الأرجح إلى مفاوضات عاصفة وأضرار جانبية للأسواق.
من المحتمل جدا أن الرئيس ترامب سيتخلى عن جدول أعمال المناخ الذي تمّ الاتفاق عليه في باريس، ويحاول بناء جدار على الحدود المكسيكية وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ورفع الحواجز أمام التجارة. إجراءاته ضد المكسيك يمكن أن تزيد الدعم لزميل شعبوي حمائي، وإن كان معاديا للولايات المتحدة: أندريس مانويل لوبيز أوبرادور في الانتخابات الرئاسية بالمكسيك عام 2018.
ومن شأن الرئيسة هيلاري تتحكم أيضا في عدد قليل من الموضوعات الشاملة. رئيس حملتها، جون بودستا، لديه اهتمام كبير بتغير المناخ. ساعد بهدوء على ترتيب اتفاق المناخ بين أوباما وتشي، وربما يسعى إلى البناء على هذا الأساس، ربما في منصب وزير الخارجية. هيلاري أيضا تعزز دفاعها عن فرص المرأة التي كانت تنادي بها طيلة حياتها.
من المرجح لهيلاري وترامب أن يركزا أولا على مصادر الإحباط المحلي، خصوصا الاقتصادية منها. ستكون هنـاك فرص لهيلاري للجمع بين مواقفها بخصوص الاستثمار في البنية التحتية والهجرة، وعلاقات أعمق في أمــيركا الشمالية، وهو موضوع يهم كل المجتمعات والأعمال لدى اللاتينيين. يمكن لسياسات ترامب في الطاقة أن تعزز خيارات الإنتاج في الولايات المتحدة، لكن تهديداته التجارية تلقي بظلال قاتمة على النمو.
من المحتمل لكوريا الشمالية أن تفرض نفسها على اهتمامات الرئيس الجديد في عام 2017، وهذا التهديد سوف يحرك السياسة المبكرة تجاه الصين. بيونغيانغ تكتسب القدرة على ضرب الولايات المتحدة بأسلحة نووية. وعلاوة على ذلك، الصواريخ المحمولة، خاصة في الغواصات، تحد من أوقات التحذير. وقد استخدم كيم من قبْل غواصة لإغراق سفينة كورية جنوبية. وهو الآن يهدد كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة بالأسلحة النووية. المفاجأة الاستراتيجية سوف تطغى على الصبر الاستراتيجي. الصين متخوفة من الإجراءات التي يمكن أن تزعزع استقرار كوريا الشمالية. لكن من المحتمل للإدارة الأميركية الجديدة أن تجادل بأن الوضع الراهن لن يبقى، وسوف يكون السؤال هو: ما إذا كانت الصين ستعمل مع الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية لإيقاف التهديد الجديد؟
أوروبا للأوروبيين
العلاقات التجارية مع الصين متوترة. خطاب هيلاري أمام معهد السلام في عام 2012، في الذكرى الـ40 لزيارة الرئيس نيكسون إلى الصين، يكشف عن نهجها المحتمل الذي يقوم على أساس علاقات أقوى مع شركاء التحالف. وما لم تجد الرئيسة هيلاري وسيلة لدعم اتفاقية تجارة الشراكة عبر المحيط الهادئ، التي كانت مهجورة في حملتها الانتخابية، ستعاني سياستها في آسيا من أجل أن تكون ذات صدقية. تصريحات ترامب التي تستخف بشركاء التحالف والردع النووي، والصين، والعلاقات التجارية مع آسيا، هي على خلاف مع رؤية الزعامة الأميركية المستمرة منذ فترة طويلة. إذا كان للمرء أن يأخذ بكلامه، فإن سياسة ترامب في آسيا من شأنها أن تنفر الحلفاء، وتعزل الولايات المتحدة، وتؤجج الصراع في المنطقة.
في الشرق الأوسط، ربما تسعى هيلاري إلى إصلاح العلاقات مع إسرائيل من خلال التركيز على التهديد الذي يجمع بين إيران وحزب الله ونظام الأسد في سوريا. حزب الله، الجماعة الشيعية اللبنانية المدعومة من إيران، قريبا سوف يكون قادرا على إطلاق هجوم صاروخي دقيق يمكن أن يتطلب هجوما إسرائيليا مضادا على الأرض. في الوقت الذي تسعى فيه إدارة هيلاري إلى الحفاظ على اتفاق أوباما النووي مع إيران، هي أكثر عرضة للعمل مع إسرائيل والدول العربية السنية لاستباق الأخطار.
أعلن ترامب أنه سيتراجع عن اتفاق أوباما النووي مع إيران، الأمر الذي يعجل بوقوع أزمة. ويبدي كل من هيلاري وترامب ملاحظات حازمة حول داعش والمتطرفين، لكنها تبدو غامضة حول ما يمكن القيام به في سوريا والعراق. ولم يظهر أي منهما الرغبة في إيجاد توازن استراتيجي على الأرض يمكن أن يكون أساسا لقرار سياسي، على الرغم من أنه من الممكن إقناع هيلاري بذلك.
من المحتمل أن تُترك المشاكل في أوروبا للأوروبيين، على الرغم من أن الرئيسة هيلاري ستحترم التزاماتها بالناتو وتتصرف بحزم، ولكن ليس باللجوء إلى العمليات العسكرية، مع روسيا. ينجذب ترامب بشكل غريب إلى بوتين ويدعم حركات أوروبا الشعبوية القومية. ويبدو أنه رافض للاستثمار التاريخي في التكامل الأوروبي وضمان الولايات المتحدة للأمن عبر الأطلسي. النزاعات الضريبية مع أوروبا هي أكثر احتمالا من التفاوض بشأن الاتفاق المتوقف للتجارة عبر الأطلسي. فرص العمل مع الجيل الجديد من المصلحين في أميركا اللاتينية، خاصة الآن في البرازيل والأرجنتين، من المرجح أن يُغفل عنها ما لم تجد هيلاري وسيلة لتجديد السياسة التجارية. الأزمة المتوسعة في فنزويلا تتطلب من الرئيس المقبل تنسيق استجابة إقليمية.
التزام الحذر
سيكون الرئيس الجديد أيضا بحاجة إلى اتخاذ قرارات بشأن السياسات الدفاعية والموارد، وتغير الاتجاه العام للسياسة النووية والتحديث. الفضاء وأمن الفضاء الإلكتروني، والأنظمة الآلية التي لا تحتاج إلى البشر، خاصة تحت الماء، تحتاج إلى استثمارات. وسيتعين على البنتاغون تحديد احتياجات الأفراد، بما في ذلك مزيج القوة وأدوار المدنيين والمتعاقدين.
زملاء هيلاري متبحّرون في هذه القضايا، لكن من الصعب التنبؤ بالأولوية والميزانية التي قد تحددها لمواضيع الدفاع. تصريحات ترامب التي يستخف فيها بالقادة العسكريين والخبرة العسكرية، والعاملين في الجيش وعائلاتهم، وقوانين الحرب، تثير الإحساس بالخطر، لكن يعتقد مؤيدوه أنه سيعيد تقييم مواقفه حين يتولى المنصب. مع ذلك التحدي الأول أمامه سيكون إدراك أن الرؤساء الأميركيين يتعين عليهم أن يراعوا الحذر في تصريحاتهم.
يتم تحديد هوية الفترات الرئاسية بالطريقة التي تتصرف بها الإدارة تجاه الأحداث، وعادة الأحداث غير المتوقعة. ومن المفيد أن يكون لدى الرئيس إطار استراتيجي، إضافة إلى وجود خبراء متمرسين يستطيعون العمل معا. وأفضل الزعماء يسعون إلى المشاركة وتشكيل المشهد وتحفيز فرقهم بما يتجاوز الكلام من أجل تحقيق النتائج. يحتاج الرئيس المقبل إلى أن يبدأ بتقرير ما إذا كان يجدر بالولايات المتحدة تعميق النظام القائم منذ 70 عاما. في هذه الحالة يحتاج إلى أن يبيّن السبب في ذلك للشعب الأميركي، وللعالم.
صحيفة العرب