كان من المفترض أن أشارك قبل ظهر الخميس المنصرم في ندوة أقامتها "مؤسسة الإمام الحكيم" في مركزها في بيروت على مدى يومين متتاليين حول "التداعيات الاجتماعية بعد داعش" ولكنّ عائقاً صحياً عابراً حال دون هذه المشاركة. كنتُ قررتُ أن تكون مقدمةُ مداخلتي بما يَحتَمِلُ اتهامَها بأنها "خارجة عن الموضوع"، مجازفاً بالسعي لإقناع مشاركين عراقيين وسوريين ولبنانيين وأتراك بأنها في صُلْبِ عنوان الندوة.
فكرة مداخلتي تلك تقوم على أن معيار نهاية داعش وبدء مرحلة ما بعد داعش ليس معياراً "داعشياً" إذا جاز التعبير. ستسقط الموصل وستسقط الرقة وقد تسقط سريعا كل "دولة داعش"، غير أنه على المستوى الفكري فإن مصير "الداعشية" يرتبط بمصير كل حركة صعود وسقوط الفكر الأصولي في الإسلام السياسي، لأن داعش ليست فقط امتداداً لحركات الإسلام السياسي المعاصر السنية والشيعية، بل هي جزء لا يتجزأ من بنية هذه الحركات، وبالتالي فإن سؤال "ما بعد داعش" ليس سؤالاً عن مصير "فكر متطرف" يطرحه من يفترضون أنفسهم إسلاميين "غير متطرفين" وإنما هو سؤال أشمل رغم تحولات الفكر الأصولي وانشقاقه بين ما يُسمّى "معتدل" و"متطرِّف"، وكلاهما على الصعيد الفكري اسمان افتراضيان لبنية متطرفة بتكوينها وطبيعتها! أياً تكن استخداماتها في المصالح الدولية والإقليمية.
للدلالة أو لإحدى الدلالات "الاجتماعية" على ما سبق، وكم الأمثلة كثيرة، هي القانون الذي اتخذه البرلمان العراقي بتحريم كامل للخمور في العراق. إنه برلمان الدولة نفسها التي يقوم جيشها المستعاد حاليا بمهمة طرد داعش. إذاً داعشية اجتماعية تمارسها الجهة أو الجهات نفسها التي تقوم بتصفية الداعشية العسكرية.
هذا مثال صارخ وراهن على استمرار "الداعشية" أكانت داعش موجودة أو غير موجودة!
لذلك نحن في منطقتنا أمام مسؤولية كبيرة الآن بعد حوالي أربعة عقود من انفجار الفكر الأصولي الإسلامي الشيعي وبعد حوالي عشرة عقود من انطلاق الفكر الأصولي السني وبمناسبة مؤاتية هي بدء الاستئصال العسكري لأشرس حركة ولدتها الأصولية الدينية وهي داعش، أن نطرح تأثيرات كل الفكر الأصولي باعتباره حركة متطرفة في تكوينها، تصاعدَ تطرفها إلى مستويات أعلى والصراع الآن ليس بين معتدلين ومتطرفين فيها وإنما بين متطرفين أقل ومتطرفين أكثر.
أمثلة الداعشيات الاجتماعية السابقة لداعش كثيرة، وبالتالي يمكن الافتراض بل الجزم أن الداعشيات اللاحقة لداعش أو ما بعد داعش ستستمر طالما أن النخب الليبرالية في المنطقة غير قادرة أو باتت غير قادرة على ممارسة حقيقية لحرية النقد لتجارب الأصولية الدينية، بكل ما يتضمنه ذلك من مراجعة للنص ولاستخدامات النص. الاستخدامات غير المقدّسة للنص المقدّس.
في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الذي تلاه من القرن الحالي وحتى ظهور "الربيع العربي"، كان عدد كبير من السلطات العسكرية في منطقتنا معادياً لـ"الإخوان المسلمين"، ومع ذلك بدا المشهد أيامها كما لو أن السلطات العسكرية في مصر وليبيا وسوريا وتونس قد انتصرت على التيار الأصولي أمنياً ووضعته في السجون ولكنها في الآن معاً كانت "تستسلم" ثقافياً للأصولية في أحكام القضاء والقرارات الرقابية على السلوك الاجتماعي كما في مصر، حتى في سوريا حافظ الأسد كان عدد الجوامع المبنية في ذلك العهد يتجاوز بأضعاف ما شهدته العهود السابقة منذ الانتداب الفرنسي!
لم يكن صعباً ملاحظة الظاهرة نفسها، أي سيطرة الأصولية على "السلطة الثقافية" مقابل طرد هذه الأصولية الحاسم من السلطة الأمنية والسياسية في ليبيا والجزائر وتونس وحتى في "أراضي" السلطة الوطنية الفلسطينية عندما أصدر الرئيس محمود عباس، وكان في سنواته الأولى، قرار تشكيل لجان لمراقبة تطبيق الصيام في المجتمع!
تطرح علينا مرحلة "ما بعد داعش عسكرياً" مهمة إعادة التفكير والتقييم لكل التجربة الأصولية الحاكمة والمعارضة التي سيطرت ثقافياً على حيواتنا العامة والخاصة في العقود الأخيرة.
في جواب أولي على هذه الدعوة للمراجعة، ربما ليست المنطقة مهيأةً بعد للقيام بالنقد الحر. المثير الآن هو أن أوروبا، وتحديداً مسلمي أوروبا، بما اكتسبوه من خبرات عميقة ومتنوعة داخل المجتمعات العلمانية الأوروبية المتقدمة، تستطيع نخبهم أن تلعب دوراً نقدياً هاماً وفريداً حيال تجربة الحركات الأصولية، خصوصا أن مسلمي أوروبا والغرب باتوا يعانون بشكل فادح وخطير وقاتل من آثار وممارسات الظاهرة الأصولية.