صدق الرئيس الأميركي باراك أوباما بشعاره الإنتخابي " التغيير" الذي تبناه عام 2008 قبل فوزه برئاسة الولايات المتحدة الأميركية كون التغيير كان العامل الأساسي الذي طغى على كافة سياسات أميركا طوال عهده في الولايتين.
صدم أوباما كثيرين وأكثرهم الحلفاء ففي عهده طرأت تغييرات كبيرة وجذرية على السياسة الخارجية الأميركية وأثبت أنه واحد من أهم الرؤوساء الأميركيين الذين تركوا بصمة مهمة لهم في العقيدة الأميركية التي ستحدد مسار السياسة الخارجية الأميركية.
هذا التغيير الذي تبناه لم يعجب كثر من حلفاء أميركا في العالم خصوصا في الشرق الأوسط كونهم إعتادوا لسنوات طويلة على نمط معين من السياسة الخارجية لأميركا.
المؤسسة الأميركية التقليدية:
يمثل باراك أوباما الصورة الجديدة للمؤسسة الأميركية "establishment " التي تطور نفسها مع متغيرات الزمن.
والمؤسسة الأميركية هي مجمع يضم النخب السياسية الأميركية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي والشركات العملاقة ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والدراسات والمجمعات الصناعية والعسكرية واللوبيات التي بمجملها تساهم في صنع الرأي العام الأميركي وتحدد سياسة أميركا الداخلية والخارجية على أساس المصلحة الأميركية العليا.
وأوباما الآتي من قلب هذه المؤسسة لم يصطدم بها بشكل جذري أو ثوري بل تماشى معها وعبر من خلالها عن رؤيته لأميركا وطبق سياسته الخاصة عبرها لأنه يدرك جيدا مدى خطورة الإصطدام بالمؤسسة وهيكلتها فهي عماد وقوة أميركا.
لكن أوباما رفع شعار التغيير بوجه التقليديين في داخل هذه المؤسسة وقدم عقيدة جديدة باتت تعرف اليوم في أوساطها بالعقيدة الأوبامية.
العقيدة الأوبامية الجديدة:
هذه العقيدة غيرت أولويات السياسة الخارجية الأميركية فنقلت ثقل الإهتمام الإستراتيجي في أول ولاية أوباما قبل صعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية من الشرق الأوسط إلى قلب آسيا وجوار الصين.
وعرفت الخطر الإستراتيجي الذي يهدد أميركا بنمو السوق الصينية إضافة إلى خطر القاعدة والإرهاب.
ركزت هذه السياسة على دعم الصناعات الإستهلاكية والمتوسطة داخل أميركا وساهمت في تقليص إستيراد البضائع الصينية إلى الأسواق الوطنية الأميركية.
أضف أن برنامج الرعاية الصحية الذي حققه أوباما يشكل إنجاز له ويعرف ب " أوباما كير" ساهم في تعزيز الإهتمام الداخلي لأوباما على حساب الخارج.
لذلك تختلف سياسة أوباما عن سياسة الرئيس السابق جورج بوش الإندفاعية والتوسعية نحو الخارج، فأوباما صب إهتمامه على حاجات المواطن الأميركي وأنجز الكثير على هذا الصعيد كبرنامج الرعاية الصحية.
أما على صعيد السياسة الخارجية فقد كانت سياسة الرئيس باراك أوباما نتاج التركة الثقيلة التي ورثها عن سلفه جورج بوش، فعندما إستلم أوباما كانت أميركا تعيش في أزمة إقتصادية تأثر بها العالم عرفت بأزمة الرهانات العقارية وكانت تخوض حربين ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق.
وبسبب التواجد العسكري الضخم للولايات المتحدة في هذين البلدين ومع الخسائر العسكرية الضخمة خصوصا في العراق والميزانيات الكبيرة التي تجاوزت التريليون دولار في كلا الحربين كان على أوباما أن يحد من حجم الإستنزاف المالي والعسكري واللوجستي فأعطى القرار بالإنسحاب من العراق وأفغانستان قبل أن يؤجل قرار الإنسحاب من أفغانستان لوقت لاحق.
هذا الإنسحاب الذي كان لأسباب داخلية إقتصادية بالدرجة الأولى شكل إشارة لشكل العقيدة التي ينوي أوباما تبنيها لاحقا وهي تخفيف التدخل العسكري الأميركي المباشر في الميدان والإعتماد على قوى محلية كقوات سوريا الديمقراطية والبشمركة في العراق وسوريا وإستخدام الطائرات من دون طيار كما جرى ويجري في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال.
وبالفعل حققت هذه الإستراتيجية منافع مهمة لأميركا كان أبرزها إغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وعدد من القيادات البارزة في التنظيم حول العالم وساهمت في تشتيت جهود التنظيم.
كان أوباما يريد من خلال هذه السياسة إعطاء مساحة من الحرية لحلفائه في المنطقة للإعتماد على أنفسهم في خوض الحروب وحصر الدور الأميركي بالشق التسليحي والإستشاري كما يحصل اليوم في حرب التحالف العربي على اليمن.
لكن هذه السياسة أسيء فهمها من البعض وخاف منها البعض الآخر.
فظن البعض أن أميركا تنسحب من الشرق الأوسط لكن الحقيقة هي أن أميركا بعهد أوباما أصبحت تدير اللعبة من بعيد فيما جميع أعدائها يستنزفون بحروب طائفية ومذهبية ويستنجدون بها للتدخل كما حصل في العراق بعد أن إحتلته داعش.
فقبل إحتلال داعش لأجزاء من العراق، كانت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق والمقربة من إيران تندد بأميركا ولكن بعد الغزو الداعشي إستنجد جميعهم بالأميركي للتدخل ووقف الزحف الداعشي نحو بغداد.
لذلك اليوم، تجد الميليشيات الشيعية والجيش العراقي يقاتل تحت غطاء جوي أميركي وهم يعرفون أهمية هذا الغطاء.
لكن بالمقابل هناك من حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة وفي طليعتهم السعودية إستاءت من هذه السياسة وشككت بنوايا أوباما خصوصا فيما يخص الإتفاق النووي الإيراني على الرغم من أن ما حققه أوباما على هذا الصعيد يعتبر ذو قيمة إستراتيجية كونه كبح جماح الطموحات النووية الإيرانية وعزز دور المعتدلين داخل تركيبة النظام الإيراني وهدم الصلف الإيراني المحافظ.
إستطاع أوباما من خلال هذه الإتفاقية التحكم بآليات ودورات الصعود والهبوط داخل النظام الإيراني من بوابة الإقتصاد والعقوبات لكنه لم يخف إعجابه بماهية المؤسسات وعملها في النظام الإيراني مقارنة بأنظمة الشرق بإستثناء تركيا.
لذلك خففت عقيدة أوباما من وطأة التدخل العسكري الأميركي المباشر وإعتمدت على خيارات أخرى وحددت أولويات جديدة لكنها كانت بطيئة ومتدرجة وهذه من المآخذ عليها.
إنجازات أوباما:
حقق باراك أوباما العديد من الإنجازات التي ساهمت في الحفاظ على ريادة أميركا كأقوى دولة في العالم.
ويعتبر تحسن الوجه الإعلامي لأميركا في الشرق الأوسط بالأخص والعالم أحد أهم الإنجازات.
فلم يعد هناك مظاهرات تنظم ضد سياسة أميركا بالعالم ويتم فيها حرق للأعلام الأميركية وهي من إنجازات أوباما الذي خاطب العالم العربي والإسلامي من قلب القاهرة وتوجه برسائل إلى الشعب الإيراني كمحاولة لتقريب وجهات النظر مع شعوب المنطقة.
ولم تقف أميركا بوجه الربيع العربي بل ركبت موجة التظاهرات وتبنت شعارات الشباب العربي بالحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية.
هذه النظرة الإيجابية إتجاه أميركا ساهم فيها نمو خطر الإرهاب وخوف المسلمين منه وإستنجادهم وحاجتهم لأميركا من دون أي إستثناء.
وتمكن أوباما أيضا من إضعاف الإقتصاد الروسي وخلق جبهة أوروبية وعالمية وشعبية ضد سياسات بوتين التوسعية في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط .
ملفات أخرى إستطاع أوباما حلها منها الملف النووي الإيراني والملف الكوبي وزيادة الإهتمام بالمواطن الأميركي وتحسين قدرة الإقتصاد الأميركي وتوقيع إتفاقية المناخ للحد من الإنحباس الحراري وهي من أهم إنجازات عهده.
لكن مقابل هذه الإنجازات هناك إخفاقات.
إخفاقات :
تعتبر المأساة السورية وما نتج عنها من أهم إخفاقات سياسة أوباما البطيئة والصبورة ولعل تراجعه عن ضرب النظام السوري بعد الهجمات الكيماوية في خان العسل تعتبر من أهم اللحظات الصعبة كما عبر عنها أوباما نفسه.
فالمجازر اليومية وبطىء السياسة الأميركية ساهمت في خلق أزمة إنسانية لوثت مسيرة أوباما حتى اليوم وهو لم يستطع إيجاد حل جذري لها لكنه تمكن من خلق توازن رعب وصناعة معادلات مع الروس داخل سوريا.
ربما أوباما بحسب البعض ينظر إلى الحرب السورية على أنها فرصة ليصفي أعداء أميركا بعضهم بعضا لكن أزمة اللاجئين وإزدياد خطر داعش أقلق المؤسسة العسكرية الأميركية التي لم ترض عن هذه السياسية.
فخطر داعش الذي وصل إلى أوروبا شكل خطرا على رؤية أوباما لمواجهة الإرهاب كون إستمرار داعش الى اليوم يعد إخفاقا آخر له.
واليوم تدور معركتين مع داعش في الرقة والموصل وهي معارك مع الزمن ليحسم أوباما قضية داعش وينهيها قبل تسليم الحكم لأحد المرشحين للإنتخابات الرئاسية الأميركية.
إقرأ أيضا : أميركا تصالح كوبا... لماذا الآن؟
توتر في العلاقات مع بعض الدول:
لم تكن علاقة أوباما الشخصية مع نتنياهو كما هو معهود عن العلاقات الأميركية الإسرائيلية ولعل الإتفاق النووي مع إيران ساهم في زيادة الشرخ لكنه شرخ بقي على مستوى شخصي وبعض الإنتقادات لسياسة الإستيطان ولم يمنع ذلك أوباما من عقد أكبر صفقات الأسلحة مع إسرائيل ودعمها أمنيا ولوجستيا.
وتعتبر القضية الفلسطينية وحلها والعمل نحو حل الدولتين إخفاقا من إخفاقات الرئيس أوباما.
أما مع السعودية فتدهورت العلاقات كثيرا معها خصوصا بعد قانون جاستا ويبدو أن هذا التدهور سيستمر إلى ما بعد عهده خصوصا بعد تراجع إعتماد أميركا على النفط الخليجي في ظل عصر النفط الصخري الجديد.
تركيا أردوغان هي الأخرى كانت قلقة من أوباما خصوصا بعد الإنقلاب الفاشل في الصيف الماضي لكنها لم تصل إلى حد القطيعة.
أما مع روسيا فإنهالت الإتهامات على أوباما أنه شرع لها الأبواب للتوسع في الشرق الأوسط بالرغم أن الأمر ليس هكذا فنظرة سريعة الى مزاج الشارع الاسلامي والعربي تجده انه استبدل العداء لأميركا بالعداء لروسيا.
عقيدة مختلفة وعالم جديد:
بمجملها كانت عقيدة باراك أوباما تغييرية بالفعل وصادمة،بقيت المؤسسة الأميركية هي المعيار الأساسي لتحديد أي سياسة فعقيدة أوباما ليست من بنات أفكاره أو لحظة تخلي أو فعل تأمل خاص بل هو إستجابة لمتغيرات بدأت تطرأ على العالم.
كان أوباما في اللحظة المناسبة لإستيعاب أكبر قدر من التغيرات والتكيف مع المشكلات.
أخفق وأنجز وحقق الكثير، وهو الرئيس الفرصة الذي أضاعه العرب والمسلمين لإستغلال مساحة الحرية التي تركتها أميركا لهم في عهده لخلق سياسة عربية مناسبة للعصر .
هي دورة أخرى من دورات التاريخ وحقائق الجغرافيا والسياسة تقف أميركا أمامها بعد عصر أوباما لتؤكد الحقيقة التاريخية القائلة أنه عندما تتغير أميركا يتغير العالم.
بقلم رئيس التحرير
إقرأ أيضا : عقيدة أوباما... تحول جذري في السياسة الأميركية.