تمهيد:
مع غلبة التوجه الإيراني في لبنان بتكريس زعامة الجنرال عون (المدعوم الوحيد من حزب الله)، بانتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، مترافقاً مع تحسّن ملحوظ في موقع الرئيس السوري، الذي يحظى بدعمٍ روسي مطلق، ومع صمود الثنائي الحوثي-صالح في اليمن، وانتقال المبعوث الدولي السيد ولد الشيخ أحمد لأخذ مطالبه بعين الاعتبار في خريطة الطريق المقترحة، ومع دحر داعش في العراق، كل ذلك يدفع بعض المحلِّلين والمتحمسين للقول بأنّ إيران تعيش أفضل حالاتها في عمق المنطقة العربية، وهذا طبعاً بفضل الوفاق الإيراني الغربي الذي حقّقته الإدارة الأميركية مع الجمهورية الإسلامية.
أولاً: العصر الفارسي الأول
يقول جرجي زيدان عن العهد العباسي بأنّه كان "العصر الفارسي الأول"،حيث تحقق التأثر بالعناصر الشرقية في أشدّ الميادين اختلافاً، فأهمل الخلفاء أصالة الدم العربي: فلبعضهم "أمّهات حرائر" ولبعضهم الآخر أمهات من أجناس مختلفة: بربرية (كالمنصور) وفارسية (المأمون والواثق والمهتدي) ويونانية (المنتصر) وسلافية (المستعين) وتركية (المكتفي والمقتدر).
وقد ترافقت هذه الظاهرة مع ظاهرة أخرى، وهي أنّ العناصر الفارسية والتركية تحلّ محلّ الأرستقراطية العربية. وما أسهم في أحداث التبديل نحو العصر الفارسي: أولاً؛ إنشاء الوزارة مع ما يواكبها من كُتّابٍ يؤخذون من بين الفرس المثقفين، وثانياً؛نقلُ العاصمة إلى بغداد، وهو تحويل لمركز الخلافة نحو الشرق.
وتزعّم الفرس الحركة الفكرية: أبو حنيفة، حمّاد، بشار بن برد، سيبويه، الفرّاء ، أبو عبيدة معمّر، أبو العتاهية، ابن قتيبة، ولا نذكر هنا إلاّ أشهرهم، وكان ابن خلدون قد ذهب في بعض مبالغاته إلى أنّ العلماء المسلمين هم "من العجم"، وذكر أحمد أمين في "ضحى الإسلام" ما للألفاظ الفارسية من تأثير في اللغة العربية والأدب العربي، فقد هضم العرب الأدب الفارسي، وظهر ذلك في شعر الغزل الذي تسرّب إليه الفحش الصريح (بشار وأبو نواس)، مقابل ذلك نزعة زهدية في شعر أبي العتاهية. والتأثير في الألبسة: السروال والقلنسوة والقفطان، العباءة، الطيلسان، والاهتمام المفرط بفنّ الحلية والزينة، ( النويري في نهاية الأرب) أخبار النساء (ابن قيم الجوزية)، الاهتمام المفرط بالاغذية (المسعودي في مروج الذهب) والاهتمام بالندامى وأسباب الرفاهية، والموسيقى (اسحق الموصلي) ومجالس الشراب والظرفاء والألعاب: الشطرنج ،النرد، السلوجان، الصيد بالباشق، الحمامات الفخمة (أحمد أمين في ضحى الإسلام).
ثانياً: العصر الفارسي الحالي
لم يصلنا حتى الآن سوى قعقعة السلاح، وطموحات توسُّعية تقتدي بما سبقها من أطماع إمبريالية تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية، وتُنازعها الزعامة هذه الأيام روسيا، وللأسف لا يلوح في الأفق مظاهر أدبية أو فقهية أو نهضوية أو حداثية، لم يفد مع السلاح سوى شعائر وسلوكيات متزمتة، كانت الأمة العربيه قد تجاوزتها منذ عصر النهضة، وأعادتها بقوة الحركات الأصولية الإسلامية فزرعت التخلف والعنف في مسام الجسم العربي قبل أن توافيهم "أصولية شيعية" من أقاصي الشرق الفارسي.