تصاعدت في الأشهر الأخيرة هجمات نظام الأسد وحلفائه الدموية في جبهات الشمال وغوطة دمشق، وزج نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم مزيدا من القوات البرية على جبهات القتال، فيما كانت طائرات النظام وروسيا، تواصل هجماتها بالبراميل المتفجرة والصواريخ على خطوط القتال، وفي ضرب الأهداف المدنية في عمق المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، والهدف الأخير من تلك الهجمات، إضعاف المعارضة وتدميرها مع حواضنها الاجتماعية، تمهيدا للاستيلاء على مناطق سيطرتها وتغيير خريطة السيطرة على الأرض لصالح النظام وتحالفه، التي سيكون لها تأثير مباشر على خريطة الصراع في سوريا وعليها.
وبطبيعة الحال، فقد كانت نتائج هجمات النظام وحلفائه في الجبهتين مقاربة لنتائج الصراع المسلح المتواصل في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، حيث يتقدم هذا الطرف هنا، ويخسر هناك، ثم يتبادل المتصارعون المواقع في مناطق أخرى، وإنْ كان ثمة ميل لغلبة النظام وحلفه على قوى المعارضة المسلحة لعوامل عدة، أهمها الاختلال الاستراتيجي في موازين القوى نتيجة التدخل الروسي في الحرب السورية أواخر العام الماضي.
غير أنه وخارج الصورة الرئيسية لمجريات الصراع بين حلف النظام والمعارضة المسلحة على جبهات الشمال والغوطة، فإن صورة أخرى من الصراع تتواصل في مناطق سيطرة المعارضة، شاملة صراعا بين بعض فصائلها، تتراوح حدوده ما بين حد أدنى يمثله صراع تنظيمي، وصولا إلى حد صراع أعلى، يمثله الاشتباك المسلح، وبين الاثنين، كان يتواصل صراع سياسي بين أطراف المعارضة المسلحة المختلفة.
ورغم أن الصراعات العنيفة بين تشكيلات المعارضة المسلحة، حدثت مرات ومرات في السنوات السابقة، فإنها في الأشهر الأخيرة، تحولت إلى ظاهرة خطيرة لأسباب، أبرزها تصاعد وتمركز الصراع مع النظام وتحالفه على حدود مناطق محاصرة أو شبه محاصرة، وهي السمة العامة لواقع جبهات الشمال وغوطة دمشق، وثاني الأسباب إصرار النظام وتحالفه على حسم سريع للصراع، سواء عبر عمليات عسكرية كبيرة، كما هو الوضع الأوضح في الشمال، أو عبر المصالحات المحلية المرفقة بالضغوط العسكرية، كما هو الحال في الغوطة، التي أتت ثمارها المرة في داريا والمعضمية وقدسيا والهامة، وهي عمليات تتواصل في مناطق أخرى من ريف دمشق.
الأهم في أسباب الصراع بين تشكيلات المعارضة المسلحة وخطورته الراهنة، تنافسها ورغبة بعضها في السيطرة والتمدد على حساب شركائها، وهو أساس ما حدث في الغوطة الشرقية بين «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن» أكبر تشكيلين في الغوطة قبل أشهر، والسبب نفسه لم يكن خارج أسباب الصراع بين تشكيلي «فاستقم كما أمرت» و«نور الدين الزنكي» التي جرت في حلب أخيرا، وكلاهما يقاتل تحت راية الجيش السوري الحر، وقبلها معارك إدلب بين حركتي «أحرار الشام» و«جند الأقصى»، التي جرى حلها والتحاق معظم عناصرها بـ«جبهة فتح الشام».
ومما لا شك فيه، أن نتائج الصراع كارثية، وتمتد كارثية نتائجها في ثلاثة مستويات؛ أولها على المعارضة المسلحة، إذ تدمر قدراتها وإمكانياتها البشرية والمادية، وهي قدرات وإمكانيات محدودة في خريطة الصراع السوري، وصعبة التعويض بحكم وجود هذه القوى في مناطق محاصرة أو شبه محاصرة ووسط انعدام الدعم الخارجي، ما يؤثر سلبا على القدرات الإجمالية لتشكيلات المعارضة مقارنة بقدرات خصومها في حلف النظام، والمستوى الثالث، أنها تضعف قوة الحاضنة الاجتماعية، وتزيد مشكلاتها ومعاناتها، خصوصا في ظل ما تعانيه تلك الحاضنة نتيجة حرب حلف النظام عليها وظروف الحصار المفروضة، ما ساهم في إطلاق مظاهرات شعبية وحراك مدني وعسكري في الغوطة الشرقية أخيرا لمطالبة «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن» وغيرهما بحل خلافاتهم، والسير نحو رسم سياسات مشتركة وصولا إلى تشكيل ذراع سياسية وعسكرية واحدة في مستوى الغوطة كلها.
ويمثل هذا التطور بعضا من جهود تتواصل في مستوى المعارضة السياسية والجماعات الأهلية والمدنية السورية، لمعالجة ظاهرة الصراع بين تشكيلات المعارضة المسلحة، وهي جهود ينبغي أن تجد صداها وتمتد في المحيط الإقليمي والدولي المؤيد والداعم لفكرة الحل السياسي في القضية السورية، لأن إضعاف المعارضة المسلحة في سوريا من شأنه تشجيع نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين ومليشياتهم على المضي في طريق الحل العسكري - الأمني ومتابعته للنهاية، وإصرارهم على رفض الحل السياسي.
غير أن كل الجهود، لن تكون ذات جدوى، ما لم تقتنع قيادات التشكيلات المسلحة بعبثية الصراع وآثاره المدمرة على المستويات المختلفة، وضرورة التوجه نحو بناء سياسات جديدة، تقوم على حل الخلافات على أساس التفاهم والتشارك ورفض التشدد والتطرف، وهو اختبار قد يكون الأخير لتلك القيادات وتنظيماتها، وتأكيد إذا كانت ستبقى، أو أنها سوف تختفي.