عودة الرئيس سعد الحريري قريبا الى السرايا التي ينتصب في باحتها الخارجية تمثال والده الرئيس رفيق الحريري تمثل برهانا على ميزان القوى في لبنان المستمر منذ اتفاق الطائف عام 1989. رب قائل ان العماد ميشال عون، وقد بات اليوم رئيسا للجمهورية، كان عند إبرام هذا الاتفاق من أشد معارضيه، مثله مثل "حزب الله" وهذا صحيح. لكن الزمن تغيّر كحال الشرق الاوسط الذي يقع على خط التحولات التي تشبه براكين الطبيعة. لذلك، فإن جريمة اغتيال رفيق الحريري عام 2005 التي كان مدبروها يريدون الانقضاض على ميزان قوى الطائف قد فشلت في تحقيق أهدافها. وها هو سعد الحريري اليوم يعود الى موقعه الذي أجبر على تركه في بداية عام 2011 في لحظة ظنّ فيها قاتلو والده ان بمقدورهم إغتيال نجله سياسيا فخاب فعلهم مرة أخرى.
كل الذي قيل، ولا يزال يقال، ان سعد الحريري عاد الى السلطة بفعل تنازلات مؤلمة لمصلحة المحور الذي تقوده إيران يغفل أمرا جوهريا هو إضطرار هذا المحور للقبول بأن يكون الحريري الطرف الذي تصدّر مرحلة إنهاء الفراغ الرئاسي بتأييد ترشيح عون ليكون بالتالي المرشح الذي لا يضاهى بترؤس الحكومة الاولى للعهد الجديد. إن في ذلك برهانا على ميزان القوى الذي لا يستقيم إلا بالاقوياء في المعادلة السياسية - الطائفية وهم اليوم: "حزب الله" وعون والحريري. وأي إخلال بهذا الميزان سيرتد على المخلّ أو المخلّين به. وهذا ما تشهد به وقائع الاسابيع القليلة الماضية على مختلف الصعد المالية والسياسية والامنية.
كثيرون في لبنان وخارجه ما زال يسكنهم هاجس الماضي القريب المضطرب الذي كان فيه من هم أعداء قد أصبحوا شركاء في التسوية الجديدة التي فتحت امام لبنان مسارا إنقاذيا. ولن يبدأ هذا الهاجس بالانحسار إلا من خلال السرعة في تشكيل حكومة تتمتع بدينامية العمل في فترة الاشهر المقبلة التي تفصلنا عن الانتخابات النيابية وتقنع اللبنانيين بأن إزالة النفايات من شوارعهم وتزويد منازلهم بالمياه والكهرباء وتحريك الركود الاقتصادي ليست من عجائب الدنيا السبع.
ما يهم اليوم هو الكلام عن الحريري العائد الى الصدارة سنة 2016. ما أظهره زعيم "المستقبل" في عودته الان أنه يمتلك طاقة على السباحة عكس التيار راح يمتلكها تدريجيا منذ استشهاد والده قبل 11 عاما. نتذكره مثلا عام 2007 عندما بثّ حيوية كبيرة جدا عندما بدأت تخبو عزيمة جمهور 14 آذار. كما نتذكره في العام 2009 عندما ظنّ محور 8 آذار انه قادر على إلحاق الهزيمة به في الانتخابات النيابية فخاض المواجهة التي قلبت الهزيمة الى انتصار. وها هو اليوم ينطلق من قعر الازمات السياسية والاقتصادية والامنية ليثبت انه باق في وطنه ولن تكون هناك حقائب سفر إذا اشتدت الازمات كما اشتدت في الاعوام التي تلت 2011. إن زمن البراءة قد انتهى.