يوماً بعد يوم، يتّضح أن المسار السياسي الإيجابي الذي انطلق، الاثنين الماضي، بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتكليف سعد الحريري برئاسة الحكومة، سيستمر بالزخم نفسه، لكن مشروطاً بتحوّل كبير في الأدوار والتوازنات والمواقف، لمصلحة تثبيت المعادلة الرئاسية ـ الحكومية ـ السياسية الجدية، ومن خلالها الاستقرار اللبناني، بوصفه مطلباً محلياً وإقليمياً ودولياً في المرحلة الراهنة.
يقتضي ذلك قبل كل شيء «التواضع» في السياسة. وهذه هي «المدرسة» التي أراد الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، أن يطالب حلفاءه وخصومه بالانتماء اليها، وذلك ربطاً «برسائل سياسية إيجابية» تم تبادلها في الأيام الأخيرة، بين أعلى المراجع اللبنانية التي تقف على طرفي نقيض، وذلك للمرة الأولى منذ نحو عقد من الزمن.
قد يستدعي ذلك طرح أسئلة حول وجود أبعاد خارجية لهذه «السلاسة السياسية» غير المسبوقة، فإذا تعذّر العثور عليها، فلا بأس من تغليب «الوطنية اللبنانية» على ما عداها، خصوصاً عندما تصبح هذه «الوطنية» مطلوبة خارجياً، وهذا ما عبر عنه سفراء مجموعة الدعم الدولية، أمس، من القصر الجمهوري، وما سيعيد التأكيد عليه الموفدون الدوليون والإقليميون المتوقع تدفقهم الى بيروت في غضون الأسبوع المقبل.
في الانتظار، لم تحمل الاستشارات النيابية غير الملزمة لرئيس الحكومة المكلف، أمس، أية مفاجآت، بل شكلت نسخة عن كل الاستشارات التي سبقتها منذ الاستقلال حتى الآن، مع اختلاف التسميات النيابية والأعداد والحقائب والأسباب الموجبة لرفع سعر هذه الكتلة أو تلك، وكل ذلك من ضمن «بازار» سياسي ـ نيابي مفتوح، لا يلزم الرئيس المكلف نهائياً.
ولعل المفيد في هذه المرحلة رصد حركة مشاورات جبران باسيل ونادر الحريري، وحركة هذا أو ذاك منهما، في اتجاه «الخليلين»، كما في اتجاه بعض الحلفاء، شرقاً وغرباً، شمالاً وجبلاً.
ووفق أحد المتابعين للملف الحكومي، يصح القول إن خطاب السيد نصرالله، أمس، «يشكل بوصلة إلزامية للتأليف الحكومي، إذا التزم المعنيون بمندرجاتها، فيمكن الفوز بتوليفة حكومية بأسرع مما يتوقع كثيرون، وإذا تعذر ذلك، فلن تكون الأمور سريعة، كما يشتهي البعض».
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنه في لحظة دخول نواب «تكتل التغيير والإصلاح» للاجتماع بالحريري في مجلس النواب، لم يكن السيد نصرالله، قد أنهى مقاربته السياسية للملف الحكومي؛ وبالتالي، فإن «النسخة» التي عبر عنها إبراهيم كنعان، أمام الرئيس المكلف (وزارة سيادية كالمالية أو الداخلية وأخرى خدمية واثنتان «أساسيتان» مع عبارة أن «الطاقة» تعنينا)، وهي حقائب لا تُحتسب منها حصة «الطاشناق» (وزير واحد) ولا «المردة» (وزير واحد) ولا «القومي» (وزير واحد)، بدت كأنها «نسخة قديمة مستهلكة» ولا تمتّ بصلة الى المعنى السياسي الذي شرحه السيد نصرالله.
ما قاله الأمين العام لـ «حزب الله» يعني أن ما بعد الحادي والثلاثين من تشرين الأول، هو غير ما قبله. وهو كلام موجَّه بالدرجة الأولى الى الرئيس العماد ميشال عون ومعاونيه وأبرزهم جبران باسيل. صار مطلوباً من «التيار» أن يقدّم نسخة جديدة يصح القول فيها «ميشال عون الثاني». فالجنرال الرئيس بات مطالَباً بأن يطمئن الآخرين وأن يكون أباً للجميع؛ وبالتالي، عليه أن يكون رحباً وقادراً على تبديد مخاوف الآخرين، كما وقف معه حلفاؤه في عز محاولات استهدافه طوال عقد من الزمن.

نصرالله: عون جبل.. جبل
ولعل الرسالة الأهم التي أراد السيد نصرالله، توجيهها، تمثّلت في التأكيد على الحلف الوثيق مع الرئيس نبيه بري والإشارة المعروفة بأن «حزب الله» لن يشارك في الحكومة المقبلة من دون «أمل»، مطالِباً «التيار الحر» بعدم المشاركة في حكومة لا يتمثل بها الرئيس بري، على قاعدة التعامل بالمثل وردّ الجميل.
يأتي ذلك في موازاة الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، في سياق كلمة طغى عليها التفاؤل والدعم الكامل للعهد الجديد، وكان لافتاً للنظر تجيير السيد نصرالله تسمية حصة الحزب في الحكومة الى بري، وبالتالي جعله مفاوضاً وحيداً باسم «الثنائي الشيعي» لا بل باسم كل مكوّنات «8 آذار» كـ «المردة» و «القومي» و «البعث» وطلال ارسلان و «الطاشناق».
وفي كلمة تلفزيونية خلال حفل تكريمي للقيادي الحزبي الراحل مصطفى شحادة في حسينية زقاق البلاط، دعا نصرالله إلى إغلاق الملف الرئاسي، نافياً أن تكون هناك أية صفقة بين الحزب وعون. وقال: «كل ما بيننا هو الثقة، ونحن اليوم مطمئنون جداً، لأن الذي يسكن قصر بعبدا هو رجل وقائد وصادق وشجاع ووطني وشخصية مستقلة وجبل.. جبل ولا يُشرى ولا يُباع «ولا يبرم ولا يفتل» ولديه ثوابت ولديه مبادئ يثبت عليها ويسير عليها».
وفي إطار تأكيده على العلاقة مع بري، توقف أمام الدور الإيجابي الكبير الذي قام به الأخير في يوم انتخاب عون، وإدارته الدقيقة والممتازة لإنجاز هذا الاستحقاق.. «باللعبة السياسية كان الرئيس بري يستطيع وأيضاً معه آخرون، أن يطيّروا النصاب، لكنه لم يفعلها وحافظ على الميثاق». وقال إن «مجريات جلسة 31 تشرين الأول هي شهادة كبيرة للرئيس نبيه بري».
كما أشاد بـ «الحليف الشريف الوزير سليمان فرنجية»، مشيراً إلى أن الأخير «كان عنده فرصة ذهبية أن يُنتخب رئيساً، ولكن من اليوم الأول التزم معنا»، بما في ذلك بمقاطعة جلسات كان يفترض أن تنتخبه رئيساً بعد ترشيحه من قبل الحريري!
وكرّر نصرالله دعوته الى الجميع للتعاطي بإيجابية مع العهد الجديد، «ولنعتبر كلبنانيين أننا أمام فرصة وطنية كبرى للانطلاق من جديد وللعمل سوياً من أجل الحفاظ على بلدنا ومعالجة أزماته ومواجهة التحديات القائمة في هذا المحيط المتلاطمة أمواجه. ونحن رهاننا كبير جداً في حزب الله على قدرة الرئيس ميشال عون والعهد الجديد على إدارة كل الاستحقاقات الوطنية المقبلة».

مستعدّون للتسهيل والتعاون
وعلى صعيد الملف الحكومي، ذكّر «بأننا لم نسمِّ الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة ولم نسمِّ أحداً أساساً، ولكننا قمنا بكل التسهيلات الممكنة ليحصل هذا التكليف، ولتبدأ مرحلة جديدة».
وقال إن «هذا البلد يحتاج إلى حكومة وحدة وطنية، يحتاج الى تضافر كل القوى، يحتاج إلى تعاون كل القوى. هناك البعض يتمنى أن يكون أحدٌ ما بالمعارضة حتى هو يعني يقشّ شمال ويمين؛ هؤلاء مشتبهون. على كل حال الرئيس المكلف قال إنه سيمشي ويسعى بهذا الاتجاه وهذا جيد. هذه بداية جيدة».
وذكّر «بأننا كنا نرفض أن ندخل نحن والرئيس بري إلى حكومة لا ترضي تكتل الإصلاح والتغيير والتيار الوطني الحر». وقال إنه «إذا كان الرئيس بري وحركة امل في الحكومات السابقة كانوا يقولون نحن لا نشارك إذا لم يشارك التيار الوطني الحر وحزب الله بالحكومة، فطبيعي جداً أن يأتي حزب الله ويقول: إذا لم يشارك الرئيس بري وحركة أمل فنحن لا نشارك»، وذهب الى حد القول إنه «من حق الرئيس بري على تكتل الإصلاح والتغيير والتيار الوطني الحر أن لا يشارك في حكومة لا يشارك فيها الرئيس نبيه بري. ليس المطلوب أن يعلنوا ذلك، ولكن المطلوب أن يفعلوا ذلك».
وأكد أن «المعني بالتفاوض حول الحقائب وتشكيل الحكومة بالنيابة عن حركة أمل وعن حزب الله سوياً هو الرئيس نبيه بري. هو معنيّ أن يفاوض حول حقائب، حول أعداد. نحن لسنا جهة مفاوضة. طبعاً نحن نتابع مع الرئيس بري في اتصالاته، في النتائج التي وصل إليها، نحن على الخط تماماً، ولكن هو المعني بهذا التفاوض». وأكد أنه «في حال كان الناس واقعيين وصادقين وإيجابيين وبادلوا الإيجابيات بإيجابية، تمشي الأمور بسرعة».
وقال إن القوى التي سهّلت التكليف حريصة على تأليف الحكومة في أسرع وقت ممكن، «لكن المطلوب الإيجابية، التعاون، والقناعة بعدم الإقصاء وبضرورة التعاون جميعاً، وأنا سمعت في اليومين الماضيين كلاماً مشجّعاً بالحقيقة، أنه نريد أن نتجاوز خلافاتنا. نحن وفريقنا لدينا نية تعاون ونريد لهذا العهد أن ينجح. ربما معنيون أكثر من سوانا بأن ينجح هذا العهد، وأيضاً نحن نريد لهذه الحكومة أن تؤلَّف وأن تنجح».
وقال نصرالله: «نحن ننتظر نتيجة المباحثات والمحادثات الحكومية لنرى إلى أين تصل الأمور. إذا كنا نحن نستطيع في مكان ما أن نساعد أو أن نقوم بدور إيجابي لتسهيل الأمور فلن نوفر جهداً، ولكن الأصل هو أن يتم التعاطي مع مَن يفاوض باسمنا جميعاً بالصدق والإيجابية المطلوبة».
وشدّد على أن اللبنانيين أمام فرصة جديدة، «اليوم نحن بلدنا مستقر أمنياً بنسبة كبيرة. هذا بفضل تضحيات الجيش والأجهزة الأمنية ورجال المقاومة ووعي الناس وتفهّم القوى السياسية. توجد مجموعة عوامل توصل إلى الأمن في لبنان، لا يوجد عامل واحد وحيد يُنسَب إليه هذا الفضل وهذا الإنجاز، هذا إنجاز مهم».
وختم في الملف اللبناني بالقول «لدينا عهد جديد وفرصة حكومة جديدة، ولدينا وضع في الإقليم مضطرب جداً، ولا يوجد أفق، بالعكس، (هناك) المزيد من الحروب المشتعلة... ونحن كلبنانيين نحن أمام فرصة تاريخية لنحميَ بلدنا ونتعاون لنحلَّ ما نقدر عليه من مشاكله، ونؤجل القضايا العالقة، ونعيد إحياء المؤسسات، ولكن هذا كله له علاقة بالروح الإيجابية والنية الصادقة والطيبة».