مِن الصعب في هذا الوقت المبكر إماطة اللثام عن الأبعاد الخارجية لتسوية انتخاب ميشال عون رئيساً.في العادة يظلّ هذا النوع من الأسرار بعيداً من التداول في انتظار انقضاء الوقت السياسي اللازم لإنهاء مبررات حفظه. ولكن مصادر متابعة تقدّم في هذا السياق الملاحظات الآتية:
أوّلاً، على مستوى الموقف الأميركي، فهو امتازَ بالتدرّج. بدايةً عنونَ وزير الخارجية الاميركي جون كيري تعليقَه على مبادرة الرئيس سعد الحريري ترشيحَ الرئيس ميشال عون، بعبارة «لا أدري»، ما جعلَ متابعين يقولون إنّه يعبّر عن «صدمة أميركية»، ثمّ في اليوم التالي صدر توضيح له عن وزارة الخارجية الاميركية، ما طرَح سؤالاً: هل لُفِتَ نظر كيري إلى أنّ تصريحه لم يتضمّن الكلام المناسب، وذلك من مستوى ثانٍ أرفع مركزاً في القرار الأميركي؟
تَجدر الإشارة هنا إلى أنه عشيّة انتخاب عون الذي رافَقه ضبابية الموقف الدولي منه، كانت مصادر ذات صلة بواشنطن، وقريبة من عون، قد لفَتت الى أنّ القرار الاميركي من الاستحقاق الرئاسي يتفاعل ضمن مستويات عدة متدخّلة في صوغه، ولكن يظل أكثرها تأثيراً وكالة الأمن القومي، وهذه الأخيرة لم تكن متحمّسة لعون، من دون أن يعني ذلك أنّها وضَعت «فيتو» عليه.
ولكن ما يهمّ الوكالة في شأن لبنان في هذه المرحلة ليس ملفّه الكلّي بل ملفّات محدّدة داخله، وهما «النقد» و»الجيش واستتباعاً الأجهزة الأمنية» اللبنانية، فطالما إنّ مجيء عون لن يمسّ سياقَ الرؤية الاميركية لهذين الملفّين، فإنها لن تعارضه، وعلى عون أن ينجح في هذا الامتحان الاميركي لكي يضمنَ تحاشيَ «فيتو» أميركي في اللحظات الأخيرة من مسار انتخابه.
وضمنَ سياق رصدِ موقف الغرب، كان لافتاً أنّ بريطانيا ذكّرت الرئيس اللبناني الجديد بـ»إعلان بعبدا». وفي رأي مراقبين أنّ هذا الموقف تستحضره لندن، انطلاقاً من أنّ «إعلان بعبدا» موثّق في كلّ مؤتمرات قِمم رؤساء ووزراء الخارجية العرب، مرجعيةً للعملية السياسية في لبنان.
ثانياً، الموقف السعودي، وقد لفَتت الرياض ذاتُها النظرَ إليه قبَيل انتخاب عون بأيام، وذلك من خلال زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان لبيروت، والتي ترَكت في إثرها رسالة أساسية، وهي أنّ سياسة إدارة الظَهر السعودي للبنان انتهَت، وذلك لمصلحة تدشين صفحة جديدة من العلاقة معه، لا يزال يوجد ضبابية حول طبيعتها.
غير أنّ المصادر الأقرب إلى الرياض، تؤكّد أنّها سياسة مستجدّة ولا تقوم على منهجية التعاطي التقليدية نفسِها التي كانت سارية أيام الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، بل على نظرة برغماتية مستجدّة تسود صنّاع القرار الخارجي السعودي، ولا سيّما منهم ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث إنّ الرياض تحسم في الساحات التي تسمح موازينَ القوى فيها بذلك، وفي ساحات أخرى تساوم، وذلك وفقاً لقراءتها لموازين القوى التي تسودها، وكذا الحال بالنسبة إلى نوع ثالث من الساحات تَرى السعودية أنّ مِن الأفضل لها فيها ممارسة سياسة الاحتواء، ولبنان يقع ضمن هذه الفئة الأخيرة من نظرة السعودية الخارجية.
اللقاءُ الأهمّ بالنسبة إلى السهبان في لبنان، كان مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي كشفَت مصادرُه أنّه خلال وجوده في جنيف قبل أسبوع من انتخاب عون، وصَلته إشارات مفادُها أنّ الرياض تنظر إلى اجتماع موفدِها به، بصفته الأكثر أهمّيةً قياساً على كلّ لقاءاته الأخرى مع الزعماء اللبنانيين الآخرين.
ولم يرشَح كثيراً من اجتماع السبهان ببري، سوى تسريبات أفادت أنّ رئيس المجلس قال للموفد السعودي: «لقد تأخّرتم في المجيء»، في إشارة إلى أنّ هناك وقتاً سياسياً ثميناً تمّت إضاعتُه. ومعروف أنّ بري كانت وُجِّهت إليه دعوة لزيارة الرياض، ولكنّه تأنّى في تلبيتها لأنّ الظروف لم تكن مؤاتية آنذاك. والسؤال الآن، هل وجّه السبهان دعوةً إلى بري وهل حان وقت تلبيتها؟
ولم ترِد أيُّ معلومات عمّا إذا كان السبهان قد سعى خلال اجتماعه ببرّي لرأبِ الصدع بينه وبين الحريري. ولكنّ مطّلعين على أجواء الرياض، كانوا قد لاحظوا قبَيل قدوم السبهان إلى بيروت، أنّ هناك تفهّماً داخل النظرة السعودية لأسباب غضبِ بري الذي تُثمِّن الرياض حقيقة أنّه طالما كان له مواقف ملموسة داعمة للحريري.
وبحسب المعلومات، تحدّثَ السبهان في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين بأسلوب احتوائي، حيث أبلغَ إلى كلّ طرف رسالةً تتضمّن تفهّمَ الرياض لهوامشه وحيثيته. وفي لقاءاته التي تستدعي تأكيد حرصِ السعودية على الحريري لم يتأخّر السبهان في إعلان ذلك.
تعرف السعودية أنّ بري ليس أياد علّاوي لبنان، فهو ليس عدوّاً لإيران ولديه حيثية داخل خيار «حزب الله» لحماية المقاومة، وفي الوقت نفسه كان من المؤمنين بإنشاء حلّ لأزمة الرئاسة في لبنان، يقوم على هدنة فيه بين «س ـ أ» (أي إيران والسعودية).
لكنّ الرياض استلحقَت الحلّ الرئاسي في لبنان بدلاً من أن تشارك في صنعِه مع إيران، ولو عبر وسيط ثالث كفرنسا أو حتى روسيا التي كانت واضحةً في دعمِ مبادرة الحريري. وربّما هذا ما جعلَ بري يقول للسبهان «لقد تأخّرتم».
من جابنها السعودية، ووفقَ برغماتية الجيل الجديد من صنّاع سياستها، لا تزال تحمل من إرث الجيل القديم «عقدة بغداد»، وهي عقدة تحاكي في استمرارها بالتفكير السعودية بمفعول رجعي، «عقدة فيتنام» في واشنطن و«عقدة أفغانستان» في موسكو. في ذهن التفكير السياسي السعودي أنّ الرياض لم تحتسب بما يكفي لمنع تَغيُّر هوية بغداد من عاصمة عربية ذات رمزية سنّية، إلى عاصمة للنفوذ الإيراني بثِقل شيعي.
السبهان عيَّنته الرياض سفيراً لها في العراق بعد سقوط صدّام حسين، بصفته أحد صقور الديبلوماسية السعودية، لاستدراك نتائج «عقدة بغداد»، وثمّة حاليّاً مقاربة تقول إنّ إرساله موفداً للسعودية عبّر عن رغبةٍ سعودية استدراكية لاحتواء نتائج انتخاب عون لجهة إقدام إيران على اعتباره نصراً لها.