أمس فرح العونيون حتى آذان الفجر، شربوا حتى الثمالة بعد أن اغتسلوا بالخمر، وكانوا ما بين عراة ونصف عراة تعبيراً منهم عن نصرٍ ما كان ليكون لولا جهادنا، نحن الذين بكينا وقضينا أعمارنا على حافّة برَكِ الدموع والدماء. كنا نشيّع شهداءنا وكانوا في ساحة الشهداء يغنون ويرقصون ويفرقعون ونحن نقلّم الرصاص في صدورنا وظهورنا. وكانوا وكنا نقيضان متحالفان على السرّاء، لا الضرّاء التي دخلت أرحامنا وباتت ولائدنا إحدى بناتها اللواتي لا يُفطمن عن العويل والبكاء لِهَول الحياة الأقسى من الموت علينا، نحن الذين آلفناه منذ النشأة وخبرنا وخبرناه ومازلنا معاً؛ نذهب معه حيث ذهب وأنّى شاء.
أبونا الموت وأخونا التابوت وأمّنا المقبرة المفتوحة على كل جهات الأرض نلتحف التراب وسواد الليل ونمنح غيرنا رغد العيش وسندس الثوب وأرائك العرش والذهب والفضة والقوارير واللؤلؤ وما جاءت به آيات الجنّات، ونكتفي نحن بالسعير ونُبدِّل جلودنا كلما احترقت بنار الحروب من بيروت إلى حيث يجب أن نكون. نحن في حلب والموصل وصعدة وعلى الحدود مع عدو لا يعرف غيرنا أعداء وهم يتقاسمون ثروات السلطة ونِعَم الحُكم ونأتي بهم ليحكمونا ويحدِّدوا لنا جهة موتنا ليعيشوا هانئين بما آتيناهم من بأس وقوّة وهم الضعفاء ونحن الأقوياء. لا أعرف ضعيفاً يعيش قوياً وقوياً يعيش ضعيفاً زاهداً في دنيا يقدّمها لراغب فيها ولا يترك له شيئاً من متاع. كأنّ وظيفتنا في الحياة حمل الحطب لنار الدنيا لنحترق بها ونموت ليحيا من أحبّ موتنا هو ومن معه من حِيتان السلطة والمال .
أمسى زرعنا أكثر من طود في أرضنا التي لا تعرف إلّا الريّ من دماء قامات من الرجال، وهم زرعوا أقدامهم في القصور بعد أن تسلقوا أشجارنا الشامخة وهنؤونا على شهادتنا وهنّأناهم على حكمهم، وضحكوا كثيراً وما زلنا نبكي على تاريخ لففناه بالسواد حتى ابيضّت أعيننا وآكِلنا الحزن منذ ضربة الخارجي ابن ملجم لعلي عليه السلام في مسجد الكوفة ولوّعتنا المآسي من كربلاء إلى قانا وما بعدها من تشييع لشيعة يبكون أنفسهم ويُسعِدون غيرهم ممّن قال لهم على نية الوصول إلى القصور طبتم وطابت الأرض التي ستدفنون فيها واحداً تلو الآخر .
موعدنا المزيد من الفقر والبكاء والدماء وموعدهم المزيد من الغنى والفرح ونحن نفتح الأرض باتجاه فلسطين وهم يفتحون خوابي الخمر. فعلاً نحن وإياهم حلفاء ولكن لا مكان لهم في الخسائر بل لهم الأرباح ولنا ما لنا من عزاء سنصرفه بعد حين .