التطرّف في حدّ نفسه ظاهرة أو حالة غير صحيّة، إنّها حالة تعيق تواصل أبناء المجتمع الواحد، وتحدث التفكّك فيه، وتهدّد السلم الأهلي. وقد ابتُليت الأمّة العربيّة والإسلاميّة عموماً بهذه الظاهرة التي نشهد لها تنامياً مطّرداً بوتائر سريعة خلال العقود الأخيرة، تنذر بالكثير من العواقب الوخيمة التي تنتظرنا في المستقبل القريب إن لم يتمّ تدارك هذا الوضع المُقلق.
وقد اتخذ التطرّف والتعصّب أوجهاً متعدّدة في عصرنا الحاضر، فمن التطرّف الديني وحالة الأصوليّة المتنامية بين الأديان، إلى التطرّف المذهبي الذي يشعل المنطقة برمّتها، إلى التطرّف السياسي الذي يعيق تواصل الجماعات السياسية ويعزّز من حالة الاستبداد والقمع، إلى التطرّف الفكري الذي يُلغي الآخر ويتعامل معه من موقع النفي والإبعاد.
وتعدّ العلاقة بين ما يسمّى بـ (التيار الديني) و (التيار العلمانيّ)، إذا صحّ التعبيران، أحد أوجه تأزّم العلاقات بين الجماعات في العالم العربي والإسلامي، تماماً كما هي العلاقة المأزومة بين العديد من المذاهب والطوائف الإسلاميّة أيضاً، فقد ظهر التطرّف على هذا الصعيد أيضاً، وشهد تنامياً كبيراً في فترةٍ قياسيّة، إلى أن بلغ في العقدين الأخيرين حدّ التصادم في أكثر من موقع وعلى أكثر من صعيد.
لا نعاني في المنطقة من أزمة علاقات بين الديانات فحسب، ولا بين المذاهب فحسب، ولا بين التيارات والقوى السياسية فحسب، بل نحن نعاني أيضاً من أزمة علاقة بين الأفكار أيضاً.
بدرونا، سوف نحاول استجلاء معالم هذه الأزمة في العلاقة بين الديني والعلماني في عالمنا العربي والإسلامي، ثم نمارس نقداً على هذه الصورة القائمة، لنخرج بمجموعة من التوصيات التي نقترحها لفضّ هذا اللون من الاشتباك في بلداننا، بغية تحقيق السلم الأهلي الراسخ، والتواصل الدائم بين شرائح المجتمع ومكوّناته الدينية والثقافية والسياسية أيضاً.
ويهمّني جداً أن أوضح منذ البداية أنّني لا أتكلّم هنا عن الدين والعلمانيّة أو عن هذا المذهب في الدين أو ذاك، من الشيعة أو السنّة أو الصوفية أو الإباضيّة أو.. بل مركز اشتغالي هنا إنّما هو العقل أو التيارات أو الجماعات المتطرّفة في الحياة الدينيّة، وفي الحياة العلمانيّة، وفي الحياة السنيّة، وفي الحياة الشيعيّة وهكذا، فاقتضى التوضيح.
مفاتيح ضروريّة
عندما نفكّر في معالم الأزمة القائمة بين الديني والعلماني، وفقاً للثنائية المطروحة اليوم، فقد لا نجد فروقاً كبيرة في الجوهر بين هذه الأزمة وسائر الأزمات التي تتجلّى فيها ظاهرة التطرّف والتعصّب في المنطقة، بمعنى أنّ جوهر المشكلة القائمة في التطرّف الديني وفي التطرّف المذهبي وفي التطرّف السياسي، هو بعينه يظهر مرّةً أخرى في التطرّف القائم في العلاقة بين الديني والعلماني، ولسنا أمام ظاهرة مختلفة في جوهرها وروحها، بل نحن أمام تجلٍّ آخر للظاهرة نفسها، وهو ما سأحاول أن أكتشف بعض معالمه في هذه الوريقات المتواضعة.
ولا أريد هنا أن أغرق في نحت أو اختيار المصطلحات، من حيث إنّ التطرّف لا يعبّر ـ في وجهة نظر ـ عن حالة سلبيّة، إنّما الحالة السلبيّة تكمن عندما يتحوّل التطرّف أو غيره إلى نوعٍ من التعصّب؛ لأنّ التطرّف هو أخذ طرف واختيار جانب من الجوانب، بينما التعصّب يأتي من العصابة التي قد توضع على العينين، فإذا اخترنا هذا التحليل اللغوي فنحن أمام مفهوم سلبي يقوم عليه أو يتخذه التعصّب، بينما لا نجد بالضرورة هذا المفهوم في التطرّف؛ لأنّ اختيار طرف من الأطراف ليس عنصراً سلبيّاً، ففي الفكر والعلوم لا يعني الاعتدال ولا الوسطية أن تختار وسطاً بين الاتجاهات وتتخلّى عمّا تراه حقّاً وصواباً، بل من حقّك ـ حيث يقودك العقل والتفكير ـ أن تختار أيَّ اتجاه، ولو كان لو قارنّاه بسائر الاتجاهات القائمة في الساحة يمثل أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ففي قضايا العقل النظري والبحث عن الحقيقة لا توجد عمليات تفاوض بهذا المعنى، لكي يتمّ التنازل عن شيء هنا مقابل شيء هناك، بغية الوصول إلى حلول، إنّما جوهر الاعتدال والتعدّدية هو أن يسمح لكلّ طرف باختيار أفكاره مهما كانت بعيدةً عن الطرف الآخر، شرط أن تخضع العلاقة مع الآخر على أسس وسطيّة معتدلة، تؤمّن سلاماً وطنيّاً واستقراراً اجتماعيّاً وإنصافاً أخلاقيّاً وحفظاً للحقوق.
إنّما يصبح التطرّف عنصراً سلبيّاً حينما يساوي الانفصال عن المجتمع، فعندما يقوم الفكر المتطرّف بفصل ذاته عن المجتمع، محدثاً قطيعة وعزلة، فهو يبدأ بالانغلاق على ذاته، وتضعف عنده مهارة الحوار وفنّ التواصل، ليصاب في النهاية بأمراض ذهنيّة مزمنة.
التطرّف والدوغمة
ينمو التطرّف الانغلاقي في بيئة حاضنة تمثل الدوغمائية أبرز مظاهرها. تقوم الدوغمائية على مفهوم ينتج بدوره مفهوماً آخر، فالإطلاق الذي يتسم به العقل الدوغمائي لا يسمح بوجود طرف آخر في الميدان، ومن ثم فإنّ الإطلاق يساوي الوحدة. وتتجه العقلية الدوغمائيّة إلى اعتبار منظومتها الفكرية منظومة مطلقة ليست فيها نسبيّات، فالحقيقة التي تصل إليها تتسم بالإطلاق.
هذا الإطلاق يبدو واضحاً جداً في الفكر الديني؛ لأنّ حجر الزاوية في هذا الفكر يقوم على مفهوم (الله) بوصفه المطلق المتعالي، ويقوم الفكر الديني أحياناً بتنزيل سمة الإطلاق المخلوعة على الله تعالى، إلى البنى التحتية التي تشكّل أجزاء منظومته المتبقيّة، وبهذا يتمّ تأليه كلّ شيء، ويتجلّى الله في صورة البشر، حيث يصبحون آلهةً صغاراً يملكون بعض صفات الإله الكبير، وقد يقع الغلوّ في هذا الأمر عندما يعبد البشر من دون الله عبادة حقيقيّة، بينما تظهر عمليات تأليه أخرى بشكل أخفّ لتصل إلى الزعماء الدينيّين والسياسيين وغيرهم، بوصفهم أنموذج الله في الأرض. وبالتالي فإنّ العقل الديني المتطرّف يصنع مجموعة من الآلهة التي يقوم بعبادتها من دون الله بمعنى من المعاني؛ لأنّه يخلع صفة الإطلاق عليها، وهي الصفة التي لا تحمل مصداقاً حقيقيّاً شمولياً سوى في الله وحده فقط؛ لأنّه المطلق الحقيقي من جميع الجهات.
المفاهيم في العقل المتطرّف الديني أو المذهبي مطلقة، والحلول مطلقة، والأفكار دوماً مطلقة، وهذا الإطلاق قد يكون عرضيّاً يستوعب مختلف وقائع الحياة والفكر والإنسان، وقد يكون اشتداديّاً، بمعنى أنّ الفكرة نفسها تغدو مطلقة، أيّ تصل في قدرة الحقّانية التي تملكها إلى حدّ الإطلاق، فتسلب أيّ فكرةٍ مختلفة معها أدنى مراتب الصحّة والمقبوليّة والشرعيّة، وهذا هو ما ينتج مفهوم الوحدة؛ إذ ليس في البين سوى شيء واحد، هو الأنا الكبيرة المتطرّفة الحاملة لمفاهيمها ومقولاتها المطلقة.
وإذا كانت الحقيقة المطلقة موجودة في الفكر الديني والمذهبي بوصفها الأساس الذي يقوم عليه، وأنّ خطأ التطرّف الديني ـ وكذا المذهبي ـ هو في تسرية سمة الإطلاق من الله إلى ما سواه، فإنّ الفكر البشري العلماني المتطرّف يبدو لي أنّه لم يتخلّص أيضاً من هذا النهج في التفكير، رغم أنّه من الناحية النظريّة ينادي دوماً بالمرونة والنسبية والحركيّة والمتغيّر والمؤقّت وغير ذلك.
فعندما نذهب في رحلة سريعة في كتابات العديد من العلمانيين العرب المتشدّدين نجد لغةً واضحة في احتكار الحقيقة، وفي إطلاق العقل الإنساني بدل ممارسة عقلانيّةٍ نقديّة معه، والتعاطي بنَفَسٍ استعلائي مع الأفكار الأخرى. إنّ اللغة الاستعلائية ليست إلا تعبيراً عن ظاهرة الطبقيّة في الفكر، فهناك الفكر السيّد، وهناك الفكر العبد، واللغة الاستعلائية تقدّم لي صاحبها على أنّه يعتقد بأنّه يحمل فكر سادةٍ وسيادة وليس فكر عبيد، فمن النزعة الإطلاقيّة الماركسيّة إلى نهاية التاريخ، إلى كلمات المثقّف العربي عن القدر والحتميات، ذلك كلّه يشي بما نحن بصدده.
التطرّف وأزمة الحماية والهويّة
يبدو لأيّ متابع للوضع في العالم العربي والإسلامي أنّ هذا العالم يبحث عن هويّة في عصر العولمة وما بعد الحداثة. يبدو لي واضحاً جداً أنّ الشباب العربي أشبه بمن فقد ذاكرته ويسير في الطرقات تائهاً يبحث عن هويّة ليعرف نفسه من خلالها.. كذاك الذي فقد ذاكرته بحادث سَير وأضاع في الوقت عينه بطاقته الشخصيّة، فهو يجول الطرقات يبحث عنها ليعرف ذاته، وإذا لم يحصل على هويّته الأصليّة أو الحقيقيّة فإنّه سيكون مضطرّاً ـ للخلاص من العذاب ـ أن يتقمّص أيّ هوية أخرى حدّ التفاني بها والفناء، كي تلبّي حاجته للإحساس بالذات والوجود.
عندما يكون الإنسان خائفاً من المصير القادم المجهول، ويجد أنّ سفينته تسير دون إرادته، ولا يعرف أين تحطّ رحاله، فهو محتاجٌ للأمن والحماية؛ ليبثّ في نفسه الطمأنينة والراحة والسكينة، وهذا التوصيف يمكن أن ينطبق على قطاع واسع من الشباب العربي والمسلم اليوم، من أنا؟ وما هي الحلقات الاجتماعية الأقرب لي؟ ولمن أنتمي؟
في عالم لا يمكن للفرد فيه أن يحمي نفسه لوحده، لابدّ لك أن تنضوي تحت جماعة تنتمي إليها؛ فتجد الأمن والأمان معها، وتسكن نفسك وتهدأ روحك، في وضع من هذا النوع تجد نفسك مضطرّاً لأن تنتمي بطريقة حادّة وشرسة؛ إذ كلّما تعمّق الانتماء ازداد إحساس الفرد بأنّه أصبح قويّاً بالجماعة؛ لأنّ الأنا الفردية تذوب في الأنا الجماعيّة القويّة.
فعندما ينتمي المتديّن فهو ينتمي بقوّة، ويبالغ في الانتماء، ويشعر بجروح عميقة عندما تتعرّض البيئة التي انتمى إليها للنقد أو الخسارة؛ لأنّ ذلك يوهن من قوّته ويفقده الأمن والسكينة، ومعنى الانتماء بقوّة هو المبالغة في هذا الانتماء، والتشويه فيه، ووقوف النقد والمراجعة دون تقدّم، وعدم السماح بالآخر؛ لأنّه سوف يتمّ الشعور بأنّ الآخر يريد القضاء عليّ، فعندما تتشابك هذه الأمور مع بعضها يظهر التطرّف الحادّ، ويكون الهروب إلى الأمام أيضاً. ويتمّ تصوير كلّ الخلافات على أنّها معارك وجود، ومن ثم فمن الطبيعي أنّ الأنا المدافعة عن نفسها سوف تفني الآخرين لتبقى في عالم يقوم على صراع البقاء. وإفناء الآخرين يكون في هذه الحالة مادياً أو معنويّاً، ومن أكبر وسائل التصفية المعنوية في الثقافة الدينية والمذهبيّة هو سياسة التكفير والإخراج من الدين؛ لأنّ التكفير والتبديع و.. يدمّران الحماية الاجتماعيّة للطرف الآخر ويفتتان كلّ عناصر حصانته، ويقومان بتعريته تماماً؛ ليفرّ إلى مكان آخر يركن إليه، وبالتالي تخلو الساحة للفكر المتطرّف بهذه الطريقة.
الأمر عينه نجده في الوسط العلماني في العالم العربي؛ فكلّما تعمّق الانتماء ازداد الهروب إلى الأمام، وبالتالي يصبح العلماني مضطرّاً لتصفية حسابه مع كلّ القيم القائمة في المجتمع، بما فيها القيم الدينية المجمع عليها أو تلك التي لا ضرر فيها حتى من وجهة نظره؛ لأنّ الطرف الآخر يعتاش ويعيش على هذه القيم؛ فلكي أتمكّن من إلغائه يلزمني أن أصفّي حسابي مع القيم نفسها التي بنى عرشه عليها، وبذلك يورّط العلماني المتطرّف نفسه في صراع مع الدين يتسم بالعنف والحدّة والتعالي؛ وربما يكون في حقيقة أمره إنّما يصارع التطرّف الديني القائم الذي يتخذ من الموروث الديني مصدره الأساس للتغذية المتواصلة.
إنّ انتماء المتطرّف العلماني لعلمانيّته يُشعره بالنزعة الإطلاقيّة التي تفقده قدرة التنسيق والتواصل مع الآخرين، ولهذا قد يصل به الحال أن يحمي نفسه بالارتماء في أحضان الأمم الأخرى التي تمثل ملاذ العلمانيّة في العالم.