قبل أيام، أعلن المركز الاعلامي الروسي في قاعدة حميميم الجوية في سوريا أن 842 مدينة وبلدة وقرية سورية باتت شريكة في اتفاقات المصالحة المحلية التي يعقدها النظام السوري مع معارضيه المحاصرين، وهو رقم قياسي إرتفع في الاسابيع القليلة الماضية بشكل مثير، من 309 بلدة في آب ، الى 420 بلدة في أيلول، في الوقت الذي كانت الهدنة الروسية الاميركية تنهار، لتشتعل أحياء حلب وجبهاتها أكثر من أي وقت مضى.
لم ينشر المركز الروسي أسماء البلدات التي شملتها الاتفاقات ال842، كما لم يشر الى اساليب الترغيب والترهيب التي إستخدمها النظام وحلفاؤه ضد سكان تلك البلدات وبينها التدمير والتجويع ، لكنه إكتفى بالتلميح الى ان ذلك المخطط الذي إقترحه على النظام قبل ثلاثة أعوام أحد المستشارين الاميركيين الدهاة، يثبت جدواه ويوحي بان الثورة تخبو، وبيئتها وقاعدتها الشعبية تنكمش، وتعود الى حضن الوطن..
لم يأتِ المركز على ذكر لبنان، الباحة الخلفية للازمة السورية، الذي واجه في الاشهر الثلاثين الماضية عمليات ترغيب وترهيب متواضعة ومحدودة، والذي ينضم اليوم الى عملية مصالحة شبيهة بتلك التي جرت في داريا او مضايا او سواها من البلدات السورية التي هُجّر سكانها الناجين من الموت والجوع، وأعلن النظام إستعادتها الى سلطته، وإنهاء حالات التمرد المسلح والعصيان المدني التي كانت تعبر عنها 842 مدينة وبلدة وقرية في مختلف محافظات سوريا ال14، فضلا عن المحافظة اللبنانية، التي تمردت طويلاً، وعصت كثيراً ، قبل ان ترفع الراية البيضاء نفسها.
في إنتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً، ثمة الكثير مما يؤهل لبنان للانضمام الى مركز حميميم الروسي، على الرغم من أن الامر يمكن ان يصنف كإنتفاضة مسيحية مارونية على هيمنة إسلامية . وهنا بالذات لا يمكن لأحد ان ينكر ان المزاج المسيحي والماروني الغالب في لبنان كان ولا يزال وسيظل يميل لمصحة النظام السوري، لاسباب عديدة تتخطى نظرية حلف الاقليات او فرضية التطرف الاسلامي التي تختزل المعارضة السورية اليوم.
صحيح ان الراية اللبنانية البيضاء رفعت للمرة الاولى عندما جرى التسليم من قبل المعارضين اللبنانيين للنظام السوري، بان رئيس الجمهورية سيكون من حلفاء ذلك النظام، او بالاحرى واحداً من أثنين هما الاقرب والاوثق منه. لكن اولئك المعارضين تلقوا تشجيعاً خارجياً ، عربياً وأجنبياً ، على محاولة تحسين شروط المصالحة ، بما لا يفسح المجال لتنظيم احتفالات في شوارع دمشق باختيار مرشحها المفضل للرئاسة.
حصل العكس تماماً. تحققت المصالحة بشروط توازي الاستسلام التام الذي أضطر اليه سكان البلدات السورية ال842.. لكن من دون ان تتعرض المحافظة اللبنانية للحصار والجوع والغارات الجوية والصاروخية. ولم تكن صور سيارات النواب اللبنانيين السوداء المغادرة لساحة النجمة في وسط بيروت تختلف كثيراً عن الباصات الخضراء التي تستخدم في العادة لنقل المعارضين السوريين وعائلاتهم الى مناطق هجرتهم الجديدة.
لن يكون من الصعب التكهن بان تلك الساحة ستصبح مهجورة مثل ساحات داريا ومضايا، وستفرغ مساكنها ومحلاتها من الزوار والرواد في المرحلة المقبلة، لا لأن رئاسة المجلس النيابي وغالبيته أُكرهت على اختيار عون رئيساً، بل الاضواء ستنتقل سريعاً الى قصر بعبدا الذي يستقبل أول وفد رسمي سوري يزوره منذ سنوات عديدة ، للتهنئة بالمصالحة اللبنانية التي تنضم الى المصالحات المحلية السورية، والتي تعوض الان بالتحديد ما فات في حلب من محاولات حثيثية للصلح المبني على التهجير والتفريغ.
لن يتأخر الاحتفال في دمشق نفسها بذلك النصر اللبناني المؤزر ، الذي يرفع من معنويات النظام ويدعم مخططاته العسكرية والسياسية الخاصة بالحدود الغربية مع لبنان..أما في طهران فإن وضع الجنرال عون في مرتبة آيات الله العظمى، حصل منذ أكثر من عشرة أعوام.