في الدورة الثانية، وفي الجلسة رقم 46، وبـ83 صوتاً انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
وجاء هذا الانتخاب، تكريساً لتسوية انخرطت فيها مختلف التيارات والكتل الحزبية والسياسية والطائفية، تحت سقف ان الاستقرار الأمني والسياسي ومواجهة تحديات النزوح السوري والعمليات الإرهابية، والمخاطر التي تتهدد الثروة النفطية من قبل إسرائيل، وانتشال الوضع الاقتصادي من أزمة محدقة به، حاجات لبنانية وإقليمية ودولية يتعين عدم التفريط بها، والاستجابة لها.
وشكل هذا الحدث موضع ترحيب عربي ودولي على لسان كل من الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط الذي اعتبر ان فوز عون «خطوة نحو استعادة التوازن للحياة السياسية والمؤسسات الدستورية»، مجدداً التأكيد على دعم لبنان دولة وشعباً ومعرباً عن الاستعداد للتعاون معه، وتوفير ما يلزم للبنان إزاء ما يتهدده من مخاطر بفعل النزاعات الإقليمية الدائرة في المنطقة، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي رحب بانتخاب عون ودعا إلى تشكيل حكومة جديدة من دون أي تأخير تُلبّي حاجات اللبنانيين، وتعالج التحديات الخطيرة التي تواجه البلاد.
وفيما اكتفت الخارجية الأميركية ببيان وصف بأنه شديد الحذر تضمن تهنئة الشعب اللبناني بانتخاب عون، «كفرصة لإعادة العمل بالمؤسسات الحكومية»، كشف الاليزيه ان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند اتصل بعون مهنئاً، مؤكداً ان «فرنسا ستواصل الوقوف إلى جانب لبنان وتقديم ما يلزم له من دعم للحفاظ على استقراره وسلامة أراضيه وامنه، وسط الأجواء المأساوية التي تمر بها المنطقة».
كما ان الرئيس هولاند اتصل بالرئيس نبيه برّي مهنئاً ومشيداً بعمل حكومة الرئيس تمام سلام في ظروف صعبة.
وعربياً تلقى الرئيس عون اتصالاً من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس السوري بشار الأسد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وبرقية تهنئة من ملك البحرين.
واقليمياً، كان الأبرز اتصال الرئيس الإيراني حسن روحاني بالرئيس المنتخب الذي أكّد لمهنئه الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات بين البلدين، فيما «غرد» وزير الخارجية محمّد جواد ظريف مهنئاً اللبنانيين بانتخاب عون، وقال: «ان الاستقرار والتطوير سيكون من نصيب اللبنانيين متى اتخذوا قرارات بلادهم بأنفسهم»، فيما اعتبر مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي أكبر ولايتي ان انتخاب عون هو انتصار لخط المقاومة والسيّد حسن نصر الله، الذي اتصل بعون مهنئاً، ومباركاً ومتمنياً طول العمر والتوفيق في مسؤولياته الوطنية الجديدة.
جلسة الانتخاب
وعلى أهمية هذا الحدث الانتخابي الذي وضع حداً لما يقرب من 30 شهراً من الفراغ الرئاسي، لم تخل جلسة الانتخاب من محطات ورسائل وتندر بلغ حدّ المزاح الثقيل، سواء بوضع اسم المغنية ميريام كلينك في ورقة أحد النواب الذي ظل اسمه طي الكتمان، أو اسم كل من النائبين السيدتين جيلبرت زوين في كتلة الإصلاح والتغيير وستريدا جعجع طوق في كتلة «القوات اللبنانية».
وإذا كان حزب الكتائب اختار تمرير رسالة «ثورة الأرز في خدمة لبنان» في أوراق اقتراع نوابه الخمسة، واضيف إليهم اثنان من كتل أخرى، في جولة الاقتراع الرابعة، فإن كتلة الأوراق البيضاء التي بلغت 36 صوتاً، جاءت وازنة لجهة افقاد عون فرصة النجاح من الدورة الأولى، وشكلت ضغطاً على اعصاب نوابه، لا سيما بعد إعادة الاقتراع في الدورة الثانية ثلاث مرات، بسبب رغبة أحد النواب من المعارضة بوضع مغلفين مما أحدث عدم تطابق بين عدد النواب داخل القاعة 127 ومظاريف الاقتراع التي بلغ عددها 128، مما استدعى ترتيباً من رئاسة المجلس قضى بأن ينتقل النواب من أماكن جلوسهم إلى صندوقة الاقتراع التي وضعت لاستقبال الأوراق بحراسة عضوي هيئة مكتب المجلس مروان حمادة وانطوان زهرا اللذين تمكنا من ضبط الأوراق وصفق لهما الحضور بعد إنجاز المهمة.
وانشغلت الأوساط النيابية والسياسية والدبلوماسية بالسيناريو الذي جرت في ظله عملية الاقتراع لدرجة ان الرئيس برّي خرج عن طوره مخاطباً النواب بالجدية، لأن العالم ولبنان كلّه يتابع هذه العملية عبر وسائل الإعلام والاقمار الاصطناعية والضيوف الدبلوماسيين الموجودين في المجلس.
والاهم في رسائل المجلس ان ورقة النصاب كانت بيد المعارضة، لكنها مضت في توفير النصاب لانتخاب النائب عون، لأن ثمة تفاهمات دولية وإقليمية وعربية حسمت الوضع لمصلحة ملء الفراغ الرئاسي بشخص النائب عون.
وبين التكتيك الحاصل لرسائل العقلية اللبنانية الشخصانية، واستراتيجية ملء الفراغ وعدم تعريض البلد لأزمات تلحقه بأزمات المنطقة يمكن القول ان التعددية اللبنانية والديمقراطية اللبنانية على ما ينتباها من هنات وثغرات بقيت قدر المخارج، وخشبة الخلاص في الملمات الصعبة.
خطاب القَسَمْ
هكذا أصبح ميشال عون رئيساً للجمهورية، وإن بدت خطواته متثاقلة تحت ضغط العمر والوضع الصحي المرتبط به، فماذا جاء في خطاب القَسَمْ:
1- ربط الاستقرار السياسي باحترام الميثاق والدستور والقوانين.
2- الانطلاق من وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في الطائف، وعارضها عندما كان رئيساً للحكومة العسكرية عام 1989، باعتبار أنها برنامج العمل للعهد الجديد، إذ تعهّد عون أن ينفذها كاملة دون انتقائية أو استنسابية، مؤكداً أنه لا يمكن أن يُصار إلى تطبيقها بصورة مجتزأة فينال منها الشحوب والوهن، ولا يستوي في ظلها نظام أو حكم، ولا تنهض عنها شرعية لأي سلطة.
3- الدعوة إلى إقرار قانون انتخاب يؤمّن عدالة التمثيل قبل موعد الانتخابات القادمة، من دون الإشارة إلى النسبية أو القانون الأرثوذكسي أو أي قانون آخر.
4- في المجال الإقليمي، تمسّك عون في برنامج عهده بالابتعاد عن الصراعات الخارجية، والتزام احترام ميثاق جامعة الدول العربية، وبشكل خاص المادة الثامنة منه، مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا، واحترام القانون الدولي حفاظاً على الوطن واحة استقرار وسلام وتلاقٍ.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن المادة الثامنة في ميثاق الجامعة العربية تنص على ما يلي: «تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها».
5- وفي ما خصّ «حزب الله»، بعث إليه بتطمينات للمقاومة من دون الإشارة إلى السلاح عندما قال «أما في الصراع مع إسرائيل، فإننا لن نألو جهداً ولن نوفّر مقاومة في سبيل تحرير ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة وحماية وطننا من عدو لما يزل يطمع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا الطبيعية».
6- وفي ما خصّ الإرهاب دعا للتعامل الاستباقي والردعي معه حتى القضاء عليه، محذراً من تحوّل مخيمات السوريين وتجمعاتهم إلى «محميات أمنية»، معتبراً أنه «علينا معالجة مسألة النزوح السوري عبر تأمين العودة السريعة»، مشيراً إلى أن «لا حل في سوريا لا يضمن ولا يبدأ بعودة النازحين».
7- وفي السياسات الداخلية، تعهّد «بتعزيز الجيش وتطوير قدراته ليصبح قادراً على ردع كل أنواع الاعتداءات وحارساً أرضه وحامياً استقلاله، وحافظاً سيادته».
واقتصادياً، رأى أنه لا يمكن أن نستمر من دون خطة اقتصادية شاملة واستثمار الموارد الطبيعية وتكبير الاقتصاد والاستثمار في الموارد البشرية والتربية والتعليم والمعرفة، متوقفاً عند إقرار اللامركزية الإدارية، مطالباً بالسهر على سلامة القضاء والعدالة وقيام دولة المواطنة، داعياً للوقاية من الفساد، وتعيين هيئة لمكافحته وتفعيل أجهزة الرقابة.
إستشارات الحكومة
ومع هذا الخطاب - البرنامج، أقسم الرئيس عون من دون أن يتركه الرئيس برّي على سجيته، فذكّره بأن هذا المجلس هو الذي انتخبه رئيساً شرعياً بعد أن كان شكك به وبشرعيته.
وفي رأي مصادر نيابية شاركت في الجلسة أن مجريات اليوم الانتخابي لم تخل من رسائل للرئيس المنتخب، وإن كانت الآمال معقودة على نقل البلاد من حافة الهاوية صوب بر الأمان، في إشارة إلى المحطة المقبلة المتعلقة بتشكيل الحكومة، والتي تبدأ أولى خطواتها العملية غداً الأربعاء وتنتهي الخميس لتسمية الرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة أو تسمية سواه أو الامتناع عن التسمية.
إلا أن التفاهمات، ووفقاً لهذه المصادر ماضية في طريقها على أمل أن لا تستمر طويلاً عملية تأليف الحكومة برئاسة الحريري وبمشاركة كل القوى التي التقت عند انتخاب عون، من َالقوات اللبنانية» إلى «حزب الله» إلى تيّار «المستقبل» وتكتل «الاصلاح والتغيير» والكتلة الجنبلاطية، وصولاً إلى الكتلتين المعارضتين، التنمية والتحرير وكتلة فرنجية والتي عادت بعض أحزاب قوى 8 آذار واصطفت ورائها.
وفي أول قرار اتخذه الرئيس عون، طلب من حكومة المصلحة الوطنية الاستمرار في تصريف الأعمال ريثما تشكّل حكومة جديدة، شاكراً للرئيس سلام والوزراء عملهم.
في قصر بعبدا
وعلى وقع الاحتفالات التي عمّت المناطق اللبنانية ومراكز التجمع لمناصري «التيار الوطني الحر» والتي أطلقت الزغاريد والمفرقعات النارية والأغاني الوطنية وتوزيع الحلوى ونحر الخراف وقرع أجراس الكنائس ابتهاجاً، انتقل عون في موكب رئاسي من ساحة النجمة وبمواكبة الحرس الجمهوري ووسط إجراءات أمنية مشددة براً وجواً على طول الطريق، دخل إلى قصر بعبدا الذي خرج منه قبل 26 سنة تحت نيران القصف السوري، ولكن هذه المرة من باب الشرعية الدستورية.
واللافت ان مراسم الاستقبال الرسمية راعت التقاليد الرسمية، فأطلقت مدفعية الجيش إحدى وعشرين طلقة خلبية تزامنت مع صفارات البواخر، ثم توجه عون إلى السجاد الأحمر نحو العلم اللبناني الذي رفع على سارية القصر، وعزفت موسيقى الجيش لحني التعظيم والنشيد الوطني، وبعد استعراض كتيبة من لواء الحرس الجمهوري صافح كبار المسؤولين الموظفين في القصر الذي سبقته إليه عائلته.
ودخل بعد ذلك إلى البهو الداخلي على السجاد الأحمر وسط صفين من الرماحة وجلس على كرسي الرئاسة في قاعة السفراء واخذت له الصورة التذكارية وخلفه العلم اللبناني، ثم دخل إلى مكتبه حيث تسلم وسامي الأرز الوطني من درجة القلادة الكبرى ووسام الاستحقاق اللبناني والوشاح الأكبر من الدرجة الاستثنائية، وخلد بعد ذلك إلى الراحة على ان يبدأ نشاطه الرسمي اليوم.