«الجنرال» بعد 31 تشرين الأول هو غير «الجنرال» قبله، أو على الأقل، هذا ما يتوقعه كثيرون. إنه اليوم رئيس الجمهورية، ولم يَعد فقط ركناً في «8 آذار». ويكفي لتأكيد ذلك أن يكون الذين رشَّحوه للرئاسة هم أركان أساسيون في «14 آذار». فهل ينجح العماد ميشال عون في اعتماد نموذج الانفتاح بين المحاور، أو يقع في نموذج التصادم الذي شهدته عهود سابقة وانتهى بالكوارث؟على رغم الانقسام المحوري القائم اليوم: رئاسة المجلس النيابي محسوبة لمحور سياسي ورئاسة الحكومة لمحور مقابل، فإنّ الرئيسين نبيه بري وتمام سلام حافظا، كلّ في موقعه، على صفة رجل الدولة القادر على استيعاب الجميع.
ويكفي أن يتأمّل عون في الخطاب الإيجابي الذي يتوجّه به فريق «14 آذار» بكامل تشكيلاته إلى بري، والخطاب المنفتح الذي يتوجّه به فريق «8 آذار»، بما في ذلك «حزب الله»، إلى سلام، ليدرك أنّ من الممكن لرئيس الجمهورية أن يكون نموذجاً أفضل.
فانفتاح الرئيس ميشال عون على فريقي «8 و14» يبدو بديهياً ومبرّراً أكثر بكثير من انفتاح برّي وسلام، لأنّ عون جاء إلى الحكم بفضل الأصوات التي منحه إياها الخصوم من «المستقبل» و«القوات اللبنانية» قبل أصوات الحلفاء، إذا كان يصحُّ بعد اليوم اعتبار «القوات» خصماً.
ومن المؤكد أنّ قوى «14 آذار» تطمح إلى أن تكون دعامة قوية للعهد.
فالقوى المسيحية تحتاج إلى أوراق قوة في السلطة. كما أنّ «المستقبل» يطمح إلى أن تكون رئاسة الجمهورية أبعد ما يمكن عن نفوذ «8 آذار»، لئلّا تكون رئاسة الحكومة مستفردة داخل «التركيبة الثلاثية» للدولة.
فهل يمكن لعون أو يوفِّق بين تموضعه في التحالف مع «حزب الله» والانفتاح على «14 آذار»؟
يعتقد البعض أنّ الرجل، خلافاً لما يبدو عليه، لن يعتمد أسلوب المواجهة والصدام خلال عهده. وصحيح أنه يرفع شعار «الرئيس القوي»، لكنه يدرك جيداً أنّ مفهوم القوة في 2016 ليس هو نفسه ما كان في 1988، عندما صعد إلى القصر الجمهوري للمرة الأولى على رأس الحكومة الانتقالية واندلعت الحروب.
يراهن «المستقبل» و«القوات» على أنّ عون سيكون مرناً وواقعياً في تعاطيه، وسيكون «عون الجديد» الذي اختبر كلّ المآزق التي وقع فيها على مدى ثلاثة عقود.
وفي أيّ حال، لا يمكن أن يصل رئيس للجمهورية في لبنان إلّا بمظلة دولية وإقليمية. وعون لن يكون خارج دائرة التوافقات التي تحتّمها هذه المظلة. وجولة الموفد السعودي تامر السبهان مؤشر واضح إلى أهمية هذه المظلة.
ويعتقد «المستقبل» و«القوات» أنّ عون سيلتزم بالحدّ الأدنى من الوعود والتعهدات التي قطعها على نفسه، خصوصاً لجهة نأي لبنان بنفسه عن المحاور الإقليمية والتشديد على دور الجيش اللبناني والمؤسسات الشرعية، وسيعالج التناقضات بين هذه الوعود والتعهدات.
فعون يلتزم مع «حزب الله» نودّ تفاهم مار مخايل، ومع «القوات اللبنانية» نودّ تفاهم معراب. وهناك تفاهم على خطوط عريضة بينه وبين الرئيس سعد الحريري. ولا يمكن أن يرسم توجهات العهد وفق أسس التفاهمات الثلاثة لأنها متناقضة أو متباعدة.
وعلى الأرجح، سيحيل عون كلّ شيء على طاولة الحوار وسيترك المتناقضين يحلّون تناقضاتهم بأنفسهم ويتحمّلون المسؤوليات، فيما هو سيحاول مجدداً تصحيح الخلل الذي يعتري «اتفاق الطائف»، ولاسيما في ما يتعلق بصلاحيات رئاسة الجمهورية. ففي 1988، كان الرئيس الماروني يُمسك بجزء وافر من السلطة، لكنّ الصلاحيات التي بقيت له اليوم محدودة.
لن يقوم عون بذلك بدافع الثأر القديم بينه وبين «الطائف» فحسب، بل لأنّ «الطائف» قيَّد الرئاسة بضوابط خانقة. وقد حاول الرؤساء جميعاً، بعد «الطائف»، أن يصلحوا ما أفسده الدهر في صلاحيات الرئاسة، لكنهم فشلوا، لأنّ المسيحيين لم يعودوا مالكين لا للقوة ولا للثمن الذي يدفعونه مقابل تصحيح الخلل في «الطائف».
وتعترف القوى الأخرى السنّية والشيعية بالإجحاف اللاحق بالرئاسة وصلاحياتها الإجرائية في أدنى حدودها، لكنّ أيّاً منها لا يبدو مستعداً للتخلّي عن أيّ ورقة للمسيحيين ما دام هؤلاء لا يمتلكون أدوات الضغط الكفيلة بذلك.
سيحاول عون الاستناد إلى الحلف القوي مع «حزب الله» لتدعيم موقعه. لكنّ «الحزب» سيذكّره بثوابت المحور الإقليمي الذي يرتبط به، وسيدعوه إلى أولوية التفاهم مع برّي وسائر الحلفاء المعترضين.
لقد كان لافتاً أنّ كلّ الذين لم يقترعوا لمصلحة عون أرادوا الحفاظ على خيط رفيع معه. وهذا مؤشر إلى أن ترتيب الأمور ممكن بعد انتهاء العملية الانتخابية. فبرّي مثلاً لم يعطّل النصاب على رغم أنه كان قادراً على ذلك، وهو لم يكن حاداً في اعتراضه على عون. والكتائب أعلنت معارضتها عون وفرنجية لضرورات مبدئية، لكنها تركت خيار المعارضة أو الموالاة رهناً بالنهج الذي سيعتمده الرئيس الجديد.
وبعد الانتخاب، قد تختلط أوراق المعارضة والموالاة مجدداً. مثلاً: قد يكون «حزب الله» أقرب إلى برّي منه إلى عون. وقد يتقارب برّي والحريري مجدّداً، ومعهما النائب وليد جنبلاط، في وجه عون. وقد يُعاد خلط الأوراق المسيحية بسبب الاختلاف على الحصص في الحكومة وقانون الانتخاب. وسيضع كلّ ذلك عهد عون على محك النجاح أو الفشل.
في أروقة «14 آذار»، هناك قوى أساسية ما زالت تخشى أن يتبنّى عون خياراً حاداً إلى جانب المحور الذي ينتمي إليه، أي المحور الإيراني. وتخشى هذه القوى أن يذهب لبنان خلال عهد عون إلى خيارات لم تكن واردة في ذهن الحريري والدكتور سمير جعجع عندما اتخذا القرار بتبنّي ترشّحه للرئاسة.
وهذا الخيار مطروح بقوة حتى في أوساط «14 آذار» التي دعمت عون، لكنّ هناك أصواتاً تؤكد، في المقابل، أنّ التسوية السياسية التي تمّ التوصل إليها، وتحظى بتغطية دولية وإقليمية، مضمونة النتائج. وتالياً إنّ عون لن يخرج عن خطوطها العريضة.
واستطراداً، تردّ أوساط «المستقبل» على المشككين والمعترضين بالقول: صحيح أنّ الرئيس الحريري اعترف بأنّ هناك مخاطرة في اختياره دعم العماد عون، ولكن لا يجوز النظر إلى الموضوع وكأنه عملية انتحارية. فهناك حدّ أدنى من التوافق سيلتزمه عون ولن يخرج عليه، بضمانة داخلية وخارجية.
لكنّ الأوساط تعترف بأنّ هناك إشكالية لا بدّ من مواجهتها في معايشة العهد العوني، وهي مواصفات «الجنرال» وخبراته الشخصية، أي إنّ هناك صيغة سحرية يقتضي ابتداعها للتوفيق ما بين مزاج عون العسكري ومزاج الحريري البعيد عن العسكرة.
في أيّ حال، تقول الأوساط، عندما تنتهي معركة الرئاسة في أيّ بلد، يصافح المعارضون الرئيس الفائز ويتقدَّمون منه بالتهنئة. إنه رئيسهم شاؤوا ذلك أم أبوا. وفي المقابل، ينسى الرئيس أنّ هؤلاء يعارضونه، فيفتح معهم صفحة جديدة. إنهم جزء من اللعبة السياسية شاء ذلك أم أبى. وهذا ما سيكون في الولايات المتحدة بعد أيام.
هذه المعادلة التسووية، البديهية في الأنظمة الديموقراطية، هل سينجح العهد وخصومه في التوصل إليها، بحيث تستعيد الرئاسة موقعها فوق الجميع وتناقضاتهم، أم تتكرّر النظرية الصدامية التي شهدتها عهود سابقة وكانت أثمانها كارثية؟