شو يا أستاذ، قولك الرئيس بري بعدو زعلان من عون؟ والله ما بيهون زعله على حدا»، يسأل أحد عناصر شرطة مجلس النّواب زائر قصر عين التينة عند المدخل الرئيسي المطلّ على شارع فردان، ويتكوّر رفاقه حوله بانتظار الرّد على سؤاله. هؤلاء الجنود، لا يهتمّون بالسياسة كثيراً. في كلّ مرّة يسألون عن همٍّ مختلف، مرّة عن المساعدات المدرسية لعناصر قوى الأمن الداخلي، ومرّة عن معارك حلب، ومرّة عن التهديدات الأمنية.

لكنّهم مذ وضع الرئيس نبيه برّي نفسه في خانة «المعارضة»، صاروا جنوداً في المعارضة. «معارضة أو سلطة، مش مهمّ، المهمّ على ذوق دولته»، يقول الجندي ذو اللهجة الجنوبية.
بين المدخل المطلّ على شارع فردان وقصر الرئاسة الثانية، حواجز كثيرة وجنود أكثر، شغلهم الشاغل أمن رئيس المجلس، ورضاه. وعند كلّ حاجز يتكرّر السؤال، عن الهويّة والوجهة، بمعزلٍ عن وجه الزائر المألوف. «ما تواخذنا يا أستاذ، بس هيدي التعليمات»، يبتسم الجندي مفسحاً الطريق للضيف، بعد أن يتلقّى من رئيسه إذن الموافقة على العبور عبر هاتف أرضي.

 


في السنوات الأخيرة، أو منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وموجة الاغتيالات التي تلته، فرض الواقع الأمني على الرئيس نبيه بري سلوكاً يومياً معيّناً، أبرز معالمه تلك «التمشاية» اليومية في بهوٍ داخل القصر، بعدما حُرم من المشي في الحديقة المكشوفة.
الساعة السادسة مساء كل يوم، (اللهم إن لم يكن هناك موعدٌ مهم أو زائر خاص)، يكون الرئيس جاهزاً في البهو الكبير لاستقبال الزائرين، بثياب «شيك ــ سبور» ومن دون ربطة عنق. صدر البهو الكبير يتسع لبضع قطعٍ أثريّة بينها صورة للإمام المغيّب موسى الصدر، وكرسيّان لجهة اليمين؛ أحدهما مخصص للرئيس، وطاولة صغيرة عليها الهاتف الأرضي وقارورة مياه، وملخص إعلامي مسائي. وعلى مدار البهو، كنبات رمادية متصلة، أشبه بكنبات المضافات، وطاولات خضراء غامقة متوسّطة الحجم. وعلى الحيطان، لوحات زيتية معلّقة، أجملها تلك التي تصوّر «قهوة القزاز» في ستينيات القرن الماضي، فيما عُلّقت على الحائط الجنوبي، آية الكرسي، مرسومة مقاطعها على لوحات خشبية ونحاسية، بخطٍ كوفي أنيق.
ساعة ونصف ساعة يُمضيها الرئيس في المشي من دون توقّف، ذهاباً وإياباً في القاعة الوسيعة. بالنسبة إليه، إنه وقتٌ رياضيٌّ بامتياز، لكنّه وقتُ عملٍ ثمينٍ أيضاً. وللتمشاية اليومية طقوسها المعتادة، يعرفها الزّوار الدائمون، وسرعان ما يعتادها الزّوار الجدد. تبدو التمشاية كـ«مطبخٍ» كبير، في السياسة والأمن والاقتصاد والعلاقات، الرئيس يروح ويجيء، ومن لديه شيء ليقوله أو ليسمعه يسير إلى جانبه، وما إن ينتهي من قضيّته، حتى يبتعد تلقائياً، مفسحاً المجال لغيره. يتسع صفّ المشي إلى جانب الرئيس ويضيق، لكنّه يدير «اللعبة» من دون أن يديرها. إن كان الأمر خاصّاً، ينفرد في السّير مع الشخص المعني، يستمع إلى القضيّة. وحين يريد الإفصاح عن الرأي على العلن، يحوّل النّقاش إلى علني، يعطي رأيه، ويسمح للآخرين بالتعبير عن رأيهم. وحين يتطلّب الأمر، يُحوّل الشخص أو «الملف» بحسب نوعه، إلى الوزير علي حسن خليل، أو مساعد الرئيس أحمد البعلبكي، أو رئيس مجلس الجنوب قبلان قبلان، أو لمن يلزم الأمر في قيادة حركة أمل. وزوّار عين التينة متعدّدو المشارب والانتماءات، من أصدقاء الرئيس، كعضو مجلس إدارة ميدل إيست وشقيقه محمود برّي وقياديي حركة أمل، إلى عددٍ كبيرٍ من القضاة ورجال الأمن والعسكر والأعمال والمديرين العامّين ورجال الدّين ومبعوثي القوى السياسية وأساتذة الجامعات وصحافيين معتادين، وصولاً إلى رؤساء البلديات والمخاتير. بشرط، أن الرئيس لا ينسى اسماً أو تاريخاً، ولا يهمل قضية، وبإمكانه في ذات التمشاية أن يتابع تطوّراً ما في ملفّ النفط أو الحكومة، وإشكالاً في بلدية جنوبية بين رئيس بلدية ونائبه.
تمشاية مساء أمس في عين التينة، عشيّة جلسة انتخاب رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لم تكن مختلفة عن العادة، عدا عن كثرة الزّوار، حتى بدا البهو ضيّقاً. أمّا الرئيس، فكان مرتاحاً جدّاً، يسامر الحاضرين ويستمع إليهم، ويضفي جوّاً من روح النكتة المعهودة، فيعكس تلقائيّاً ارتياحه عليهم.
وعلى الرغم من التحوّل الذي حصل في الأيام الماضية خلال زيارة الموفد السعودي، وزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان، للبنان وبعدها، لا يزال برّي على الموقف ذاته، ويقول لـ«الأخبار»: «أنا بعدني بالمعارضة». يحفظ الرئيس للنائب وليد جنبلاط أنه انتظر عودته من جنيف ولقاءه، قبل أن يلتقي بالعماد عون، ويفهم الظروف التي دفعته لنقل البندقية إلى كتف الاقتراع لمصلحة رئيس التغيير والإصلاح. كما يفهم موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي والنائب طلال أرسلان، ولو أنه يسجّل عتباً عليهم. وعندما يتكرر السّؤال عن السّبب الذي دفعه إلى تأمين نصاب الجلسة منذ البداية، يقول: «أنا رئيس المجلس، ولن أقبل أن لا يتأمن النّصاب، ولا أحتمل أن يقولوا إني أعرقل انتخاب رئيس للجمهورية». فحين تحدّث برّي عن النيّة لخوض معركة الوزير سليمان فرنجية ودعمه، لم يكن يمزح. كان قد أعدّ العدّة جيّداً، وإن لم يكن بالإمكان إسقاط عون، كان بالإمكان إيصاله بالحد الأدنى المطلوب للرّبح. لكنّ زيارة السبهان قلبت الموازين، بعد مواقف متناقضة نقلت من المملكة قبل أسبوعين وتعكس وجود موقفين. انصاع معظم المعترضين في كتلة المستقبل لرغبة الرئيس سعد الحريري، ثم أعلن جنبلاط دعمه لعون، وتداعت أحجار الدومينو. حتى إن رئيس الحزب الاشتراكي، قال إن لم تكن عدّة المعركة جديّة، فليتم إعفاؤه منها، لأنه لا يريد أن يبدأ تيمور جنبلاط حياته السياسية بتحالف انتخابي ضدّه من تيار المستقبل والقوات اللبنانية وعون، بدلاً من «صفر» خصومة. ولم تكن زيارة السبهان، سوى «زيارة استلحاق» لأن «الطبخة كانت خالصة»، من دون السعوديين. ما هي التسوية إذاً؟ «ربّما تسوية إيرانية ــ أميركية»، لكنّها حتماً ليست تسوية لبنانية صرفة. ولم تكن نيّة الحريري ترشيح عون سرّاً عن برّي، لكنّ الرئيس لم يعتقد أن «الحريري بيعملها»، فاقترح منذ البداية أن يكون هناك تفاهم وطنيّ واتفاق على مرحلة ما بعد الرئاسة، حتى «لا نقع في ما سنقع فيه، بعد عصر الاثنين، لكن لم يسمعوا، لنشوف شو رح يصير». هل ستشارك في الحكومة؟ «ما بعرف، لهلّق أنا معارضة، وما رح أعمل شي هلق، بيفرجوني شغلة، بتعجبني، بمشي فيها، ما بتعجبني ما بمشي فيها... العدس بترابه وكل شي بحسابه، رح خلّص نهار بكرا (اليوم)، وأقعد اتفرج، لنشوف شو بيطلع معهم». رئيس المجلس لا يغلق باب التسوية، لكنّه لا يفتحه أيضاً. الثابت هنا، أن حزب الله، الذي كان يردّ على أي مراجع بشأن الانتخابات الرئاسية بالعودة إلى عون، سيردّ الآن على أي مراجع بالشأن الحكومي، بالعودة إلى برّي. والثابت هنا أيضاً، أن برّي يحضّر نفسه لنوعٍ من «الشماتة» في المرحلة المقبلة، على قاعدة «قلتلكم هيك رح يصير».
وعلى المدخل من جديد، «شو أستاذ، طمنّا، بعدو زعلان الرئيس؟»