ساعات ويُكسر الحصار عن الاستحقاق الرئاسي ليخرج لبنان من مستنقع الفراغ والغموض الذي قبع فيه نحو عامين ونصف العام، ناعياً معه تحالفي "8 و14 آذار" ومنتقلاً إلى استحقاق حكومي جديد ومتوجاً النائب ميشال عون رئيساً للجمهورية. ومنذ أن صمتت نافورة المياه في باحة قصر بعبدا (24 ايار 2014)، عاش اللبنانيون نحو 890 يوماً من الفراغ والانقسام العمودي ومعارك سياسية استخدمت فيها أقوى الأسلحة... "التعطيل."
قبل دخول لبنان المهلة الدستورية لانتخاب رئيس في 24 آذار - 2014، كان يدرك الأفرقاء ان الانقسام السياسي يعطي الفراغ الحظوظ الأكبر، فسارعت بكركي إلى لقاء يجمع الأقطاب المسيحين الاربعة في 29 آذار: الرئيس امين الجميل والنائبان عون وسليمان فرنجيه، وغاب رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وبالتالي أصبحت هذه الاسماء ضمن دائرة المرشحين الطبيعيين، لكن طوال فترة الشغور كانت هناك اسماء اتخذت صفة التوافقية: الوزير السابق جان عبيد، قائد الجيش العماد جان قهوجي، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
جعجع - حلو - الورقة البيضاء
وأطل جعجع في 4 نيسان معلناً ترشحه رسمياً وتم تبنيه من الحريري و"14 آذار"، وبجلسة أولى لانتخاب رئيس في 23 الشهر، اقتصرت المواجهة بين جعجع ومرشح "التقدمي الاشتراكي" النائب هنري حلو، لتنتهي النتيجة وفق محضر الجلسة بـ"52 ورقة بيضاء، 48 صوتاً لصالح جعجع، 16 لحلو، 1 للرئيس الجميل"، ودوّن في المحضر الموقّع من رئيس المجلس نبيه بري أن النائب سامي جميل سأل بري: "هل النصاب المطلوب في الجلسة المقبلة ايضاً الثلثين؟". فرد الأخير: دائماً النصاب المطلوب هو ثلثي عدد اعضاء المجلس أي 86"، وبدأت سياسة التعطيل بعد هذه الجلسة بغياب نواب "8 آذار" ما عدا كتلة "التنمية والتحرير" التي التزمت حضور الجلسات.
بعدها طفت معطيات عن حوار الحريري - عون، توجت في لقاء باريسي لم يصل إلى مرحلة التفاوض وفق مقربين من "المستقبل" فيما راح العونيون إلى الترويج لـ"فيتو" سعودي. وفي 21 آب قدم "تكتل التغيير والاصلاح" اقتراح قانون تعديل الدستور لانتخاب رئيس بالاقتراع الشعبي، لكن التعديل يتطلب تعديلاً دستورياً في وقت يرفض فيه حلفاء "14 آذار" تقديم أي تشريع على انتخاب الرئيس.
الحريري - فرنجية و"اعلان النيّات"
بدأ الحديث عن أي استحقاق أولاً الانتخابات النيابية أم رئاسة الجمهورية؟ فجاء الجواب في 5 تشرين الثاني وبغياب رئيس جمهورية، مدد مجلس النواب لنفسه لمدة سنتين وسبعة أشهر تنتهي في 20 حزيران 2017، كما شهد لبنان للمرة الاولى منذ العام 1990 قراراً حكومياً بالغاء الاحتفال بـ"عيد الاستقلال" بسبب الشغور بعدما قرر الجيش الغاء عيده في الاول من آب. وامام الاحتدام السياسي كان يعيش لبنان ذروة التفجيرات الانتحارية، وتحت عنوان ابعاد شبح الفتنة انطلق الحوار الثنائي بين "حزب الله" و"المستقبل" في عين التينة في 23 كانون الأول وبات عددها نحو 35 جلسة.
في 28 آذار 2015 نجحت بكركي في جمع الاقطاب الاربعة وتوافقوا على أنّ ترشيح كلّ منهم للرئاسة مقبول من الآخرين، وتعهّدوا أنّ أحداً من الأربعة لا يضع فيتو على الآخر، لكن لم يلتزم أي منهم بذلك. وفي أيلول انعقدت الجلسة الأولى للحوار في مجلس النواب ولم تفلح في إحداث أي خرق، إلى أن أتت الصدمة الأولى لفريق "14 آذار" في 20 تشرين الثاني بعد معطيات تسرّبت عن لقاء سري بين الحريري وفرنجيه وتوجه لدى الأول بتأييد ترشيح الثاني، وهي الالتفافة الجدية الأولى نحو رئيس من "8 آذار" بعدما حاول الحريري أولاً مع جعجع وثانياً بدفع الجميل إلى التحاور مع "8 آذار". الاتجاه الجديد قوبل برفض الشارع السني لاعتبار أن فرنجيه صديق الرئيس السوري بشار الأسد، وأدت المبادرة أولاً إلى احراج "حزب الله" وثانياً إلى خلخلة تحالفي "8 و14 آذار"، فالاول شهد توتراً غير مسبوق بين "الوطني الحر" و"المردة"، والثاني شهد توتراً هو الاول من نوعه في العلاقة مع جعجع فأتت الصدمة الثانية في 18 كانون الثاني 2016 مع "اعلان النيات" في معراب، وبالتالي تأييد جعجع لترشيح عون، وعلى الرغم من ذلك أطل السيد نصرالله في كانون الثاني ليؤكد تمسكه بعون.
جولة حريرية وانتخابات البلدية
زيارات الحريري المتقطعة كانت تحدث حالة من الحراك السياسي، وترجم الخلاف العوني - المردة في جلسة حوار 9 آذار بسجال حاد بين باسيل وفرنجيه، وفي 30 منه زار الحريري موسكو. واستمر مسار التعطيل مع جلسة 18 نيسان، وفي 29 منه كانت زيارة حريرية الى تركيا، الى ان جاء الحدث الأهم: انتخابات البلدية في 8 أيار التي اظهرت فرزاً جديداً مع دخول المجتمع المدني المعركة، وكانت زيارة للحريري فرنسا في 17 ايار، وزيارات عدة الى السعودية طوال الازمة.
نسف "الحوار"
أطل بري في 21 حزيران بدعوة إلى عقد ثلاثية الحوار في شهر أب، على أن يكون بندها الأول انتخاب رئيس مع الاتفاق على تشكيل الحكومة وقانون انتخاب جديد، وعقدت في 2 آب ولم تخرج إلاّ بقرارات الهرب من العجز بانشاء مجلس شيوخ ولامركزية ادارية دخلا غياهب النسيان وتم نسف الطاولة في ما بعد من باسيل، وفي الاول من تموز برز تفاهم مفاجئ بين حركة "أمل" و"الوطني الحر" على ملف النفط والغاز.
رسالة نصرالله للحريري
في 28 تموز سجل موقف لوزير الداخلية والبلدية نهاد المشنوق ان الانتخابات الرئاسية ستحصل قبل نهاية السنة، وفي اليوم التالي أكد فرنجيه استمراره في المعركة. وفي 14 آب أعلن السيد نصرالله انفتاحه على موضوع رئاسة الحكومة في رسالة اولى الى الحريري، وتابع "الوطني الحر" سياسة التعطيل والتصعيد، ففي 21 آب أفادت مصادره انه سيقاطع مجلس الوزراء ووصف باسيل الحكومة بانها "ملعونة"، وفي 25 منه.
أيلول التسريبات
وتلاها تفجير الحوار في 5 ايلول، وفي 7 منه فشلت الجلسة 45 لانتخاب رئيس للجمهورية، وفي 8 أيلول قاطع الحزب والتيار جلسة الحكومة، وبدأت تسريبات عن ارتفاع حظوظ عون للرئاسة، ولم يعلن الحريري رسمياً ذلك، وفي 28 منه حضر النائب اسطفان الدويهي جلسة الانتخاب ليؤكد استمرار فرنجيه بترشحه، وبعد فورة عونية والتلويح بـ"الشارع"، مر قرار وزير الدفاع بالتمديد لقائد الجيش جان قهوجي سنة اضافية بسهولة، وفي 30 أيلول التقى الحريري عون وكان حاسماً خيار ترشيحه، طالباً الوقت لبلورة الاخراج.
صدمة ثانية وعون رئيساً
وجاء شهر الصدمة الثانية في تشرين، فلم يكن أحد مقتنعاً بأن الحريري قد "يفعلها". ففي 3 تشرين الاول ومع المعطيات عن مبادرة حريري وقع سجال بين بري وبكركي حول مبدأ السلة، وفي 4 زار الحريري موسكو، وبعدما بدأ يتعاظم الصدام بين بري وعون أطل "حزب الله" في 11 تشرين الاول داعياً عون الى التفاهم مع الحلفاء، فيما دعا جنبلاط في 14 تشرين الاول إلى تسوية لانتخاب رئيس، واتت تظاهرة "الوطني الحر" على طريق بعبدا في 16 الشهر بشكل بارد، إلى أن جاء اليوم التاريخ في 20 ترشين الاول حينما رشح الحريري عون لرئاسة الجمهورية من بيت الوسط، وفي اليوم التالي شككت الولايات المتحدة في انتخاب رئيس للجمهورية، وبدأ حجم الاعتراض يكبر خصوصاً في الشارع السني وصفوف "تيار المستقبل" واضيف اليه اتجاه بري للمرة الاولى الى خيار المعارضة لعدم تأييده عون، مع تأكيد التزامه في الجلسة، واعترض نواب من "المستقبل" على الخيار، فيما فتح فرنجيه جبهة غير مسبوقة بوجه عون، وسجل عودة الديبلوماسية السعودية إلى لبنان، وبات انتخاب عون محسوماً قبل أيام ليبدأ الحديث مبكراً عن الحكومة والمرحلة المقبلة
محمد نمر