بينما يواصل اللبنانيّون حبس أنفاسهم في انتظار موعد إتمام الاستحقاق الرئاسيّ بعد غد الاثنين، تمهيدًا لاستقراء ملامح ما سيأتي بَعده، وما بَعد بَعد بَعدِه، كان لا بدّ لي من الاتّصال هاتفيًّا مساء أمس الجمعة مع الديبلوماسيّ الروسيّ السابق والخبير المخضرم في الشؤون السياسيّة والاستراتيجيّة فيتشلاف ماتوزوف، سعيًا إلى استطلاع موقف موسكو ووجهة نظرها حيال مسألة وصول الجنرال ميشال عون إلى سدّة الرئاسة في قصر بعبدا، وذلك لاعتباراتٍ عديدةٍ، أهمّها أنّ المناخ الدوليّ والإقليميّ الحاليّ الذي ما زال يؤكّد يومًا بعد يومٍ على براعة روسيا في مجال العمل على تفعيل حضورها بصفتها اللاعب الأقوى والأكثر تأثيرًا في العالم، يعني في إطار ما يعنيه أنّ الشأن اللبنانيّ مدرجٌ أصلًا في أجندتها الخاصّة بمنطقة الشرق الأوسط، ليس بسبب الحرب التي بدأتها على الإرهاب في سوريا يوم الثلاثين من شهر أيلول العام الماضي وحسب، وإنّما لأنّها ظلّت تنظر إلى لبنان وتتعامل معه على الدوام، منذ الحقبة السوفياتيّة ولغاية الآن، باعتباره وطنًا لرسالةٍ يُفترض أن يتجلّى في سطورها العيش المشترك بين رعايا طوائفه ومذاهبه المتعدّدة بأجمل أشكاله، الأمر الذي كان ماتوزوف نفسه أفضلَ فاعلِ خيرٍ فيه وخيرَ شاهدِ عيانٍ عليه، ولا سيّما إذا أعدنا إلى الذاكرة أنّ هذا الرجل القدير هو الذي بادر شخصيًّا إلى ترتيب أوّل زيارةٍ رسميّةٍ قام بها الشيخ أمين الجميّل لموسكو عام 1972، عندما كان الشيخ الشابّ وقتذاك لا يزال يمارس مهنة المحاماة، أي قبل وصوله إلى سدّة الرئاسة اللبنانيّة بأحد عشر عامًا بالتمام والكمال.


على هذا الأساس، وبغضّ النظر عن علاقة الصداقة التي تربطني به منذ عام 2000، فإنّ الحديث مع صاحب هذه الشخصيّة الروسيّة المتمايزة بحضورها اللافت، لا بدّ من أن يكتسب أهميّةً بالغةً في هذا الظرف المحلّيّ والإقليميّ والدوليّ الراهن، وذلك على خلفيّة ما اختزنه ماتوزوف في ذاكرته من مشاهدَ وصورٍ ودروسٍ وعبرٍ طيلة السنوات الماضية، الأمر الذي يتجلّى بوضوحٍ عندما نعرف أنّ عدد مشاركاته في نشرات الأخبار والبرامج الحواريّة على شاشات التلفزة الروسيّة والعربيّة والعالميّة وصل خلال العام الحاليّ وحده إلى ثلاثمئةٍ واثنتينِ وعشرينَ مشاركة، علمًا أنّ هذا الرقم كان يُفترض أن يكون أعلى بكثيرٍ لو لم تبادر بعض الفضائيّات العربيّة التي تدّعي لنفسها الدقّة والموضوعيّة والحياد إلى تجنّبه لدرجةٍ وصلت إلى حدّ القطيعة، وخصوصًا منذ ذلك اليوم الذي لم يصبح بعيدًا بعد من عام 2011، عندما كان سبّاقًا في مجال الإعلان عن أنّ "ربيع العرب" يندرج في سياق خطّةٍ أميركيّةٍ تستهدف توفير الأجواء اللازمة لاختبار مبدأ "الفوضى الخلّاقة" التي ستؤدّي لاحقًا إلى الإطاحة بأنظمةٍ عربيّةٍ قويّةٍ لا يمكن أن تتنازل أمام الإسرائيليّين، بأيّ شكلٍ من الأشكال، عن مستقبل القدس الشرقيّة، وبالتالي إلى تكوين الشرق الأوسط الجديد على أسسِ دويلاتٍ وكانتوناتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وإثنيّةٍ ضعيفة، وفقًا لـ "خارطة حدود الدم" التي أعدّها الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركيّ من المحافظين الجدد رالف بيترز، والتي كانت وزيرة الخارجيّة في إدارة جورج دبليو بوش السابقة كوندوليزا رايس من أشدّ المتحمّسين لها، قبل أن تورَّث فيما بعد لإدارة الرئيس الحاليّ باراك أوباما.

لبنان القويّ والموحَّد

وإذا كان الهدف ممّا تقدّم ذكره حتّى الآن قد تمحور حول ضرورة الإضاءة على ما يمثّله فيتشلاف ماتوزوف من حُسنِ درايةٍ بكافّة شؤون الإقليم وشجونه، وسِعةِ اطّلاعٍ عليها، فإنّ الهدف التالي يتمثّل في أنّ ما قاله لي الليلة الماضية خلال مكالمتنا الهاتفيّة التي استغرقت حوالي خمسةٍ وأربعينَ دقيقة، يصلح حقًّا لكي يصبح خارطةَ طريقٍ يُفترض أن تتبوصل إليها إرادة اللبنانيّين، قياداتٍ وقواعدَ شعبيّة، إذا ما أردنا ضمان عبورنا الآمن من هذا الحاضر الراهن الحرج والمظلم إلى مستقبلٍ مستقرٍّ ومشرق.

وانطلاقًا من الاستحقاق الرئاسيّ، فقد اعتبر ماتوزوف أنّ إتمامه يوم الاثنين المقبل سيشكّل علامةً فارقةً وطيّبةً في التاريخ اللبنانيّ الحديث، نظرًا إلى ما ينطوي على ذلك من دلالاتٍ بخصوص فشل كافّة المحاولات التقسيميّة التي استهدفت النيل من وحدة البلد وتماسكه في ظلّ الأزمات الإقليميّة المحيطة به، لافتًا إلى أنّ نموذج لبنان الموحَّد ظلّ على الدوام مثالًا يُحتذى به، ليس بالنسبة إلى الدول العربيّة التي تعيش فيها طوائفُ وقوميّاتٌ وإثنيّاتٌ مختلفةٌ وحسب، وإنّما بالنسبة إلى روسيا التي تجسِّد فوق مساحاتها الشاسعة مشهديّات هذه التعدّديّة أيضًا.

ووفقًا لهذه النظرة، قال ماتوزوف إنّ الإدارة السياسيّة في قصر الكرملين لم تدّخر جهدًا إلّا وبذلته من أجل إنهاء أزمة الشغور الرئاسيّ على مدى العامين الماضيين، الأمر الذي تشي به قائمة الاتّصالات واللقاءات التي أجراها كلّ من المبعوث الرئاسيّ إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف ووزير الخارجيّة سيرغي لافروف مع مختلف الأطراف المعنيّين بهذه الأزمة، كاشفًا النقاب، للمرّة الأولى، عن أنّ موسكو لعبت دورًا بارزًا على صعيد حلحلة العقدة الرئاسيّة، وخصوصًا خلال اللقاء الأخير الذي تمّ بين الوزير لافروف والشيخ سعد الحريري يوم الرابع من شهر تشرين الأوّل الجاري.

وإذا كان ماتوزوف قد أكّد على أنّ بلاده تركّز في الوقت الحاليّ على دعم بناء مؤسّسات الدولة في لبنان، من دون أيّ أبعادٍ أيديولوجيّةٍ، أملًا في تمكينه من استعادة دوره الرياديّ في العالم، باعتباره أرضًا خصبةً لزراعة ثقافة التعايش والتسامح والسلام، فإنّه لم يفوّت الفرصة للتأكيد أيضًا على أنّ موسكو، وإنْ كانت قد وقفت إلى جانب إنهاء أزمة الشغور لصالح الجنرال ميشال عون، فإنّ ذلك لا يلغي بالطبع حميميّة العلاقات التي تجمعها مع بقيّة الأطراف اللبنانيّين، بمن فيهم عائلتيْ الجميّل وفرنجيّة، والدكتور سمير جعجع، وكذلك وليد جنبلاط الذي لا تُفسد الخلافات معه حول الشأن السوريّ في الوقت الحاليّ للودّ قضيّة.

أمّا لماذا يتوجّب على اللبنانيّين اعتبار كلام ماتوزوف بمثابة خارطةِ طريقٍ يُفترض أن تتبوصل إليها إرادتهم، فأسباب ذلك تعود إلى عاملين اثنين: الأوّل هو أنّ روسيا أصبحت اعتبارًا من الأمس بمثابة الضامن الموثوق به لأمن الحدود الجنوبيّة مع الدولة العبريّة، بمعنى أنّ لا حرب ستندلع في المستقبل القريب أو البعيد مع "حزب الله" ولا من يحزنون، والثاني هو أنّ الرئيس السوريّ بشّار الأسد سيُلقي في وقتٍ لاحقٍ من العام المقبل خطابًا مرحَّبًا به أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، بمعنى أنّه باقٍ في السلطة حتّى إشعارٍ آخر.. وما على اللبنانيّين إلّا الأخذ على محمل الجدّ بهذيْن العامليْن في كافّة خططهم المستقبليّة الهادفة إلى بناء هذا الوطن أو تحطيمه، ورفع القبّعة احترامًا لمن وشى بهما.. واليقين!

(لبنان 24)