لم يكن نهر الليطاني (وبحيرة القرعون) بحاجة الى يوم فولكلوري إضافي ولا الى جنازة تؤكد موته. ولا حاجة الى المزيد من هدر الأموال تحت عنوان «تنظيفه» أو «حمايته». المشكلة باتت معروفة وتتلخّص بأمرين لا ثالث لهما: وقف التلوث من مصادره ووقف سدّ مجراه بسد. خارج هذين الأمرين، كل جهد وكل قرش يُصرف تحت عنوان حمايته او تنظيفه هو بمثابة كذب أو هدر للمال العام.
ما كُتب على اللافتة التي علقت الأسبوع الماضي تحت شعار «الليطاني يقتلنا»، ليس بعيداً عن الحقيقة لو اضيف اليها «وسد القرعون»، لأن مجرد سد مجرى مياه هو جريمة تقتل أي حياة فيه على المدى البعيد. ثم ما معنى هذا الاهتمام الاستثنائي بالليطاني وحده، وماذا عن باقي أنهر لبنان! وهل لأنه الأطول (170 كلم)؟
كان حري بمجلس النواب، الاسبوع الماضي، بدل إقرار القانون البرنامج لمكافحة تلوّث هذا النهر من المنبع إلى المصبّ بقيمة 1,100 مليار ليرة لبنانية، وقرض البنك الدولي بقيمة 55 مليون دولار أميركي للمساهمة في هذا البرنامج... أن يعيد النظر بالكثير من القوانين ذات الصلة وأن يراجع استراتيجية إدارة المياه ويسأل عن قانون المياه (كود المياه). كما كان على الحكومة الفاشلة الموشكة على الرحيل ألا تتوقف عند تشكيل لجنة بموجب القرار رقم 32 تاريخ 9/5/2014 تجمع جميع الوزارات المعنيّة والإدارات الرسميّة الأخرى المعنيّة بالإضافة إلى أبرز البلديّات لمتابعة تطبيق خارطة الطريق لمكافحة تلوّث بحيرة القرعون والحوض الأعلى لنهر الليطاني التي كانت قد أعدّت في عهد الحكومة السابقة. فكل ذلك، بالإضافة الى القرارات والمراسيم الرامية إلى إقرار هبات وقروض من أجل تنفيذ مشاريع ذات صلة كهبة بقيمة 3,2 مليون دولار أميركي من مرفق البيئة العالمي لتنفيذ مشروع الإدارة المستدامة للأراضي في حوض القرعون؛ وقرض بقيمة 15 مليون دولار أميركي من البنك الدولي لتنفيذ مشروع مكافحة التلوّث البيئي (الصناعي)؛ وإبرام الاتفاقية المالية لمشروع معالجة مياه الصرف الصحي في عنجر ومجدل عنجر وقب الياس. وهو قرض بقيمة حوالي 26,5 مليون يورو من الحكومة الايطالية؛ بالإضافة إلى تمويل داخلي بقيمة 10 ملايين دولار لاستكمال امدادات محطّة ايعات وغيرها.. ستذهب جميعها هدراً، كما في السابق، ان لم تتغير السياسات المائية المتبعة.
«بروباغندا» قاتلة أيضاً
مصادر بيئية متابعة انتقدت استفاقة المسؤولين المتأخرة الى مشكلة تلوث نهر الليطاني، معتبرة أنهم تذكروا حجم التلوث والتفتوا إلى نسبة الوفيات الناجمة عن الأمراض السرطانية بسبب المياه، فقط بعدما عرفوا بوجود نيّة لتمويل خارجي لتنظيف النهر. واضافت «لم يجرؤ أحد أن يقول لقد أوقفنا كل المرامل عن العمل، بل قالوا لقد أوقفنا معظمها. ولم يجرؤ أحد على القول أين أصبحت ملفات الدعاوى الـ 650 المقدمة ضد أصحاب المعامل الملوِثة على طول مجراه ولماذا لم يتم البت بها حتى الآن، ولماذا يتم إعطاء المزيد من المهل الزمنية لهؤلاء لتسوية أمورهم؟ مَن يحميهم ومَن يقف خلفهم؟ ولماذا ترضخ الدولة وأجهزتها لحفنة من النافذين إذا لم تكن أغلب أجهزتها متورطة بهذا الشأن؟».
وحول حملة «حماية الليطاني» ويوم العمل الذي تقوم فيه البلديات بإزالة النفايات المتراكمة ضمن نطاقها البلدي، رأت المصادر أنه «لو كانت البلديات تملك خطة لجمع وتوضيب نفاياتها والتخلص منها لما رمتها في النهر أصلاً». ورأت «ان هذا العمل الإعلامي العظيم لن يلبث أن يزول أثره في غضون أيام قليلة. وحتى لو استمر لوقت أطول فإنه لن يحجب عن الأنظار أنه لم يتطرق إلى معالجة المشاكل الأهم وهي التلوث الجرثومي والميكروبي والكيميائي، وهو تلوث يجعل النهر قسطلاً كبيراً من قساطل الصرف الصحي».
وحول مشروع القانون الجديد لحماية النهر، تقول المصادر «أولاً إن مشروع القانون المنوي طرحه ليس جديداً، فهو لا يزال يلفّ ويدور في اللجان النيابية منذ نحو سنتين، وهو يجانب مشكلة تلوث نهر الليطاني وكأنه النهر الوحيد الملوّث في لبنان. صحيح أنه النهر الأطول وربما الأكثر حيوية، لكن أليس النهر الكبير الجنوبي ملوّثاً؟ أليس نهر الكلب ملوثاً؟ أليس نهر أبو علي يُصنّف باعتباره ميتاً؟ من المعيب أن تكون في بلد صغير بمساحة لبنان وتفكر أن طروحات اللامركزية الإدارية يمكنها أن تأخذك إلى اللامركزية الإنمائية.
كما اعتبرت أن مشاكل الليطاني قد تكون في القانون نفسه الذي جعل من مصلحة الليطاني عند إنشائها في العام 1954 مصلحة مسؤولة عن قسم من النهر وليس عن النهر كله، أي اعتباراً من حدود بلدة قب الياس وليس من منبعه من العلاق، وهو ما سمح بتلويث المياه الجوفية في البقاع بالمبيدات الحشرية المستخدمة في تلك المنطقة بكثافة عالية من دون حسيب أو رقيب.
تجدر الاشارة الى أن قانون إنشاء مصلحة الليطاني حدد مهامها بإدارة مشاريع مياه الري على النهر دون التطرق لمسألة مياه الشفة التي بقيت على عاتق مصالح المياه مع أنها تستفيد من مصدر المياه نفسه! والقانون نفسه أيضاً قد أعطى صلاحية لإدارة المصلحة برفع الدعاوى الجزائية على الملوّثين، لكنه وقف عاجزاً عن ملاحقتها، كما وقف عاجزاً عن حل أزمة النفايات والصرف الصحي المستجدة الناجمة عن تموضع مخيمات اللاجئين السوريين على ضفاف النهر مباشرة في بعض القرى البقاعية.
وختمت المصادر بالقول «ربما لم يتعامل أحد مع النهر يوماً باعتباره كائناً حياً، يحتاج مثلنا نحن البشر إلى عناية ورعاية وإلا تعرّض للمرض وربما الموت. لطالما كان النهر يُعطي ولا يأخذ حقه من الاهتمام وقد يكون حان الوقت الآن للتوقف عن التعامل معه، ومع كل أنهار لبنان بمنطق استثماري فقط من جهة، وإعلامي – دعائي من جهة أخرى. مع العلم أن مجرد سد مجرى أي نهر هو بمثابة انسداد شرايين القلب بالنسبة الى الإنسان، فكيف اذا اضفنا إلى الدماء شتى أنواع الملوثات التي بتنا نعيش عليها!؟».
انطلاقاً من كل ذلك، يصبح الحل الحقيقي بإيجاد استراتيجية مختلفة لإدارة المياه في لبنان ووقف هدر الأموال على تنظيف الأنهر من دون اتخاذ إجراءات الحماية ووقف مشاريع السدود المدمّرة، وتدمير السدود الموجودة، كمقدّمة لعودة مياه الأنهر الى طبيعتها.

 

السفير