ظهرت في الايام الماضية مؤشرات تدعو الى الخشية من محاولات للتلاعب بالوضع النقدي ــــ الهشّ أساساً والمكلف أصلاً ــــ ربطاً بالاستحقاق الرئاسي. ففي ظل طلب لافت على الدولار في السوق المحلية، عشية جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الاثنين المقبل، دعا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المجلس المركزي الى الانعقاد استثنائياً، اليوم، لمناقشة اقتراح على جدول الاعمال يرمي الى حظر عمليات تحويل القروض القائمة لدى المصارف من الدولار الى الليرة، بحجّة أن هذه العمليات تشكّل مصدر الطلب الرئيس على الدولار حالياً. وهذا الإجراء لا سابقة له حتى في ظروف الحرب الاهلية في لبنان الخاضع لليبرالية اقتصادية منفلتة، ويتغنى بعدم المسّ بـ»الحريات الاقتصادية الأساسية». مصدر مصرفي مطّلع أعرب عن دهشته من هذا الاقتراح الذي «يمسّ واحدة من هذه الحريات الاساسية، وهي حرية تحويل العملة».
وقال لـ»الأخبار» إن الطلب على الدولار ليس بالحجم الذي يستدعي التحرّك على هذا المستوى، وهو لا يزال تحت السيطرة، ولدى المصرف المركزي قدرات كبيرة على تلبيته والحد من تناميه، «إلا إذا كان حاكم المصرف يمتلك معطيات لا نمتلكها... ولكن نريد أن نعرف ماهيتها لنعرف إن كانت تستدعي إجراءً كهذا». ونبّه من أن إقرار الاقتراح سيعطي جرعة زائدة من القلق، «وهذا كاف لطرح التساؤلات عن حقيقة الهدف»!
وتفيد المعلومات المتاحة بأن الطلب على الدولار موجود، إلا أن مصرف لبنان هو من يتحمل المسؤولية المباشرة عن ذلك، إذ إن العملية الواسعة والمكلفة التي ينفذها منذ أواخر أيار الماضي، تحت اسم «الهندسة المالية»، أشاعت مخاوف جدّية من وجود مخاطر تهدد الليرة. وفيما كان الاعتقاد أن الهدف من هذه «الهندسة» كان سياسياً في ظل استمرار أزمة الفراغ الرئاسي في حينه، إلا أن الآلية التي اعتُمدت بحجة الدفاع عن الليرة، أظهرت نتائجها المحققة حتى الآن أن الهدف الفعلي كان في محل آخر تماماً. فقد ضخّ مصرف لبنان، في الاشهر الأربعة الماضية، نحو 4.2 مليارات دولار من الارباح الاستثنائية الى المصارف وكبار المودعين وصناديق استثمار، نتجت من مبادلة الدولارات بالليرات بينه وبينهم، مع منحهم عائداً مرتفعاً جداً يبلغ نحو 38% وسطياً! هذه العملية نجحت، بحسب ما يُنقل عن سلامة، في تجميع نحو 11 مليار دولار إضافية في دفاتر مصرف لبنان لتعزيز موجوداته بالعملات الاجنبية، ولكنها ضخت في المقابل أقل بقليل من 23 ألف مليار ليرة في دفاتر المصارف. يخشى مصرفيون من
علاقة بين اقتراح سلامة والاستحقاق الرئاسي
لتكبيل العهد الجديد
وأدى ذلك إلى ندرة في عرض السيولة بالدولار ووفرة في عرض السيولة بالليرة، ما زاد الضغوط النقدية في معرض ادّعاء العمل على تخفيفها! ويجري منذ مدّة التداول بصيغ مختلفة لامتصاص هذه السيولة المتراكمة عبر الأدوات السيادية (أي عبر مصرف لبنان ووزارة المال)، أي عبر الدين، إلا أن ذلك يحتاج الى التنسيق مع وزارة المال، أي الى قرار سياسي، إذ لا يستطيع مصرف لبنان أن يتحمل وحده كلفة امتصاص هذه السيولة.
وتشرح مصادر مطلعة أن هذا الوضع الذي خلقته «الهندسة المالية» دفع البعض الى التحوّط، وانتقلت ودائع كثيرة من الليرة الى الدولار خوفاً من أي انهيار في سعر الصرف، ولا سيما أن سباق المصارف لمبادلة الدولارات بالليرات مع مصرف لبنان وجني الارباح من العائد المرتفع، جعل بعضها يعرض سعر فائدة أعلى لجذب ودائع بالدولار، ما قلّص الهامش مع سعر الفائدة على الودائع بالليرة وقلّص بالتالي عائد المخاطرة. كذلك سارع المقترضون الكبار من المصارف الى طلب تصفية قروضهم بالدولار وتحويلها الى قروض بالليرة، طمعاً بجني الارباح في حال انهيار سعر الصرف، ما أدى الى زيادة أخرى في الطلب على الدولار. وتخشى هذه المصادر أن تكون الامور قد أفلتت من عقالها، إلا أنها تخشى أكثر من أن تكون وراء كل هذا نيّات مبيّتة تستبق الجلسة النيابية يوم الاثنين، أو تستبق العهد الجديد، لتضعه في بدايته أمام واقع نقدي صعب.
هذه المخاوف تتخذ طابعاً أكثر جدية، إذا ما أضيفت إلى حالة الفلتان التي عاشتها طرقات رئيسية في لبنان أمس، تحت مسمّى «إضراب اتحادات النقل البري»، وما تخلله من فرض للإضراب بالقوة في بعض المناطق. ما جرى في مناطق الكولا والدورة وشتوره من إهانات لمواطنين وسائقين عموميين، ومحاولة إظهار القدرة على السيطرة على الشوارع بالبلطجة، لا يمكن فصله عن الواقع السياسي المتصل مباشرة برئاسة الجمهورية، في إطار السعي إلى إغراق العهد الجديد في مشكلات أمنية، كما الأزمة النقدية التي يريد البعض افتعالها.
والأخطر من ذلك على الاستحقاق مباشرة، هو تبجّح أحد رجال الاعمال المعروفين بولائهم السياسي، بأنه مستعد لدفع 200 مليون دولار لضمان نتيجة الانتخابات الرئاسية! ورغم أن تنفيذ «نزوات» كهذه شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً بسبب الانقسام السياسي الحاد الذي يشهده استحقاق الاثنين المقبل، ومع أن المرجعيات السياسية لرجل الاعمال المعني لم تظهر أي بوادر لتبنّي «تبجّحه»، إلا أن مجرّد التلويح بخيار كهذا يُظهر خفة سياسية ومستوى غير مسبوق من الاحتقان الذي يحاول البعض تمويهه بكلام سياسي هادئ، إلى أن تظهر النتيجة المعروفة لمعركة الاثنين المقبل.