لو قدم وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، إلى بيروت، في التوقيت نفسه، لكن من دون صفقة رئاسية مبرمة، لكانت انهالت عليه وعلى مملكته اتهامات معسكر «8 آذار»، وخصوصا «التيار الوطني الحر» بإعلامه و «أعلامه» أجمعين، بأن الديبلوماسي المتخصص بساحات المنطقة عسكريا وأمنيا، يحمل معه إلى بيروت وصفة جديدة من «وصفات الفتنة» التي كانت سبباً في طرده من بغداد قبل شهور قليلة، فتكافئه دولته بجعله برتبة وزير يأتمر بأوامر الديوان وولي ولي العهد.. وعلى مكتبه العديد من ملفات المنطقة، ومنها لبنان.
أما وإنه يأتي الى بيروت في سياق «ديبلوماسية الإيحاء»، فإن السجاد الأحمر يكاد يغطي كل الدروب التي سيسلكها موكبه طيلة أيام ثلاثة، بلا مساءلة أو محاسبة، لكأن المطلوب أن يقال إن السعودي إما أتقن اللعبة الرئاسية ـ الصفقة، من دون أن يترك بصمة واحدة من بصماته عليها، أو ان موفد المملكة، جاء بنصيحة ناصح وقدرة قادر، لاستدراك ما يمكن استدراكه، وللقول إنه ليس صحيحاً أن السعودية تخلت عن لبنان أو أنها أهملته أو خسرته أو انسحبت منه بلا رجعة.
يعني ذلك أن على القلقين محليا أن يهدأ بالهم وعلى المرتاحين لأوضاعهم ونفوذهم أن يقلقوا، فالسعودية لم تغادر الساح، ولبنان لم يُسلّم به «ساحة إيرانية» بل هو ساحة من ساحات النفوذ السعودي، بدليل كل مندرجات الاستحقاق الرئاسي، وصولا إلى الاثنين الموعود: انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.
ثمة استدراك غير بسيط، أن العقل الوهابي الذي يتحكم بالكثير من القوى والأدوار الإقليمية، لا يمكن أن ينتج معادلة كتلك التي أفضت اليها أمور الرئاسة في لبنان، بعد سنتين ونيف من الفراغ.
فأن يأتي ميشال عون رئيسا للجمهورية، فهذه ذروة السقف المسيحي رئاسيا، ولا يبالغ مرجع حزبي لبناني عندما يردد أن الإحباط المسيحي الذي استولدته عملية 13 تشرين الأول 1990، وتم «تثبيته» في خريف العام 1992، سينتهي ظهر الاثنين في الحادي والثلاثين من تشرين الأول، لكن لا أحد يستطيع التنبؤ بالاتجاه الذي ستسلكه الأمور، بعد هذا التاريخ.
وعندما يتبدد الإحباط المسيحي مع وصول «الجنرال»، فإن ما يُسمى «الإحباط السنّي» الذي لطالما لهجت به الألسن طيلة الفترة التي أعقبت سقوط حكومة سعد الحريري في العام 2011، سيتبدد أيضا، مع عودة «الجنرال» سعد الحريري الى السرايا، متسلحاً بخبرات سياسية وأمنية من عنديات ثامر السبهان، الرجل الذي خبر لبنان وعمل فيه لسنوات قبل أن ينتقل الى العراق، وربما يتحمل مسؤولية الكثير من التقارير التي رُفعت ضد السفير السعودي السابق علي عواض عسيري، بعدما أظهرت وثائق الأرشيف السعودي (التي نشرتها وسائل إعلامية عربية وأجنبية) أنها كانت مبنية على وقائع خاطئة ومنظومة علاقات وهمية أو مفبركة.
لذلك، عندما وصل القائم بالأعمال السعودي وليد البخاري الى بيروت، وجد في سفارة بلاده في شارع بلس (رأس بيروت) منظومة فساد تبدأ بعدم وجود زي رسمي لموظفي السفارة وتنتهي عند جيش من الموظفين يتجاوز الأربعمئة موظف، وهو رقم يكاد يتجاوز عدد الموظفين في سفارات للمملكة في بعض عواصم الدول الكبرى.
لقد هال الفريق السعودي الذي جاء للتحقيق في ملفات عسيري ما وجده في السفارة، سواء «أصدقاء السفارة» من سياسيين وتجار واقتصاديين وعقاريين و«باكورة» الفنانات والفنانين، ناهيك عن «باقة» من المخبرين في كل المناطق، لا يتم التدقيق بتقاريرهم، وغالبا ما تكون وهمية، فقط لقاء بدلات مالية كبيرة. لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تم فتح دفاتر مالية متعلقة بالمواكب والسيارات والشقق وبدلات السفر والمآدب.
لا يأتي هذا الكلام من باب التحريض، بقدر ما أن السعودية مطالبة بالتواضع، وبإعادة صياغة خطابها ونمط تعاملها مع الواقع السياسي اللبناني.
يسري ذلك بديهياً على علاقتها بحليفها سعد الحريري الذي يواجه أزمة اجتماعية تطال أكبر مؤسسة توظيفية في لبنان (عشرة آلاف عائلة على الأقل بين لبنان والسعودية)، وهؤلاء إما باتوا مهددين بديمومة عملهم أو بافتقادهم الأمان الوظيفي، فضلاً عن أن معظمهم لم يقبضوا رواتبهم منذ سنة بالحد الأدنى.
فهل يجوز للمملكة أن تدير ظهرها لمشكلة اجتماعية بهذا الحجم، لا تهدد مؤسسات من لون معين وحسب، بقدر ما تهدد الاستقرار الاجتماعي في لبنان؟ ثم إن هناك حوالي 56 ألف عامل وموظف تعتاش من رواتبهم 56 ألف عائلة لبنانية وأجنبية يعملون في شركة «سعودي أوجيه» في السعودية، وهي مختلفة عن «انترناشيونال أوجيه» أو غيرها من الشركات التي يديرها ورثة رفيق الحريري.
هذه الأزمة ظلت صامتة من العام 2013، حتى خريف العام 2015، ولكنها تفاقمت كثيرا في السنة الأخيرة، بدليل ما يجري ليس من إضرابات وأعمال حرق وشغب في مجمعات الشركة في السعودية، بل من حالة غضب تزداد يوماً بعد يوم، في مؤسسات الحريري في لبنان (آخرها إضراب سائقي السيارات في «تيار المستقبل» وبعض المؤسسات الإعلامية).
واذا كانت الشركة تحمّل حكومة المملكة مسؤولية التأخر في دفع مستحقاتها، وبالتالي جعلها عاجزة عن تمويل المشاريع القائمة أو أي مشاريع جديدة، فإن السلطات السعودية تتهم الشركة بأنها تدفع ثمن تفاقم واقع الفساد المالي والإداري، غير أن المعضلة لتي تواجه الطرفين، تتمثل في كون المبالغ المستحقة لـ «سعودي أوجيه» تصل الى حوالي 8 مليارات دولار (اعترفت الحكومة السعودية فقط بحوالي مليارين و600 مليون دولار)، ومن شأنها أن تؤثر على القطاع المصرفي السعودي، إذ إن ديون الشركة وحدها لدى البنوك باتت حوالي 4 مليارات دولار أميركي، أي ما يعادل 66 في المئة من أرباح البنوك السعودية، وأي تسوية تتعلق بهذه المبالغ ستؤثر على القطاع المصرفي السعودي، الذي صار يقتطع منذ فترة، بطريقة أوتوماتيكية، الأموال التي تحولها الحكومة الى «سعودي أوجيه»، علما أن ديون الشركة مع المصارف في الخارج وصلت الى حوالي المليار دولار.
ولعل السؤال الكبير: كيف ستتصرف الشركة مع المبلغ الذي سيكون مستحقا عليها في شباط 2017 ويقدر بحوالي مليار دولار أميركي، بينما تبلغ كلفة مستحقات الموظفين هناك أكثر من نصف مليار دولار، من دون إغفال الدعاوى التي بدأ الدائنون (البنوك السعودية) برفعها ضد الشركة، فيما الحكومة السعودية مربكة بين أكثر من خيار، سواء بوضع يدها على الشركة، في الوقت الذي تسعى الى «تحرير» مؤسسات اقتصادية حكومية وخصخصتها، أو بالتصفية التي تهدد باندلاع أزمة مصرفية لا مثيل لها، بحيث يصبح خيار إعادة الهيكلة هو الأقل ضرراً.
يمكن القول إن إعلان الحكومة السعودية، قبل أسابيع عن انتهاء المحادثات الإنقاذية لـ «سعودي أوجيه» والطلب من الشركة التفاوض مع دائنيها لإعادة هيكلة ديونها، ينسجم والخيار الأخير (الهيكلة)، برغم أن القرار أضر بصورة السعودية في الخارج وبمصداقية الشركات العاملة لديها، وباستقرار العاملين على أراضيها.
واللافت للانتباه أن الحكومة السعودية أظهرت في تفاوضها مع «سعودي أوجيه» تشددا تمثل برفضها، في رمضان الماضي، الخيارات الإنقاذية لها:
• شراء الحكومة السعودية حصة في شركة «سعودي أوجيه».
• بيع الأصول العقارية أو حصة في «سعودي أوجيه» الى شركة نسما (العقارية).
• بيع استثمارات «أوجيه» خارج السعودية، سواء في «ترك تيليكوم» و «تيليكوم جنوب أفريقيا» و20 في المئة في «البنك العربي» في الاردن.
ويعود قرار الحكومة السعودية برفض المساعدة في إنقاذ «سعودي أوجيه» لأسباب عدة أبرزها الآتي:
أولا، مواجهة السعودية صعوبات مالية نتيجة تقلص مداخيلها النفطية أكثر من 50 في المئة، وارتفاع عجز ماليتها العامة الى مستويات قياسية تقارب 20 في المئة من الناتج المحلي، واضطرارها مؤخرا الى إلغاء مشاريع استثمارية بقيمة عشرين مليار دولار واللجوء الى الأسواق المالية العالمية للاستدانة.
ثانيا، يعتبر دين «سعودي أوجيه» دينا للقطاع الخاص وتفرض مساعدتها على الحكومة السعودية لاحقا مساعدة الشركات الاخرى المتعثرة (عددها كبير) وهذا يتعارض مع «رؤية 2030» لولي ولي العهد محمد بن سلمان الذي يستند الى تقليص حجم القطاع العام (61 في المئة من حجم الاقتصاد) وتعزيز دور القطاع الخاص.
في ضوء هذه الوقائع والأرقام الفلكية، وفي ضوء المأساة الاجتماعية التي تهدد أكبر مؤسسة لبنانية، هل يملك الزائر السعودي ما يطمئن هؤلاء جميعا وفي طليعتهم سعد الحريري؟
لنستمع الى ما سيقوله زعيم «تيار المستقبل» مساء اليوم، عبر برنامج «كلام الناس» مع الزميل مرسيل غانم.