لم يكن الإسلام دين سيف بالمعنى الذي يسوقه المستشرقون في تحليل نظرتهم للتاريخ العسكري في الإسلام بملاحظة أن المغازي والحروب التي خاضها الجيل الإسلامي الأول هي حروب مفروضة على قيم الدعوة التي أسست لميلاد فجر جديد محوره الإنسان وكرامته وهدايته .
ولعل النقطة الأساسية في معضلة التحدي بين الإسلام الأول وخصومه هو ملاحقته لما كان يدعو إليه من إنهاء عوامل الصراع بين الناس واستبدالها بقيم التعارف والتنافس وتقديس حق الحرية وحق الحياة فقد حرّم الإسلام ارتكاب الجرائم بجميع أشكالها ودوافعها قتلاً أو تحريضاً على القتل وفي ذلك كان الميزان القرآني أن الله لا يعاقب أحداً بفعل غيره .
كما حرّم التمثيل الوحشي بجثث القتلى والأموات ونهى عن القسوة على الأسرى في الحرب وجزم بحرمة العدوان والاعتداء بوجه مطلق , واعتبر تدمير المنافع العامة بما في ذلك قطع الأشجار وتلويث المياه والإجهاز على الجريح وإهانة الشيوخ والنساء والأطفال من أشد الجرائم النكراء التي يعاقب عليها التشريع الإسلامي لأنها من البغي والظلم .
ولم يعرف العرب قبل الإسلام شيئاً من تنظيم – القوة – وإدارتها من أجل التنمية والسلام كالذي صنعه – الفقه الإسلامي – في منابذاته لجرائم الحروب على قاعدة أن يتورع المسلم عن العدوان في جميع الأحوال .
وفي الحديث رأس الجهل معاداة الناس ومن زرع العدوان حصد الخسران : " والذي نفسي بيده ما من عدو أعدى على الإسلام من الغضب والشهوة فاقمعوهما واغلبوهما وأكظموها " , والهوى أعظم العدوين : " فانزع الشر من صدر عدوك بانتزاعه من صدرك " . 
فليس من الإسلام بشيء من يهتك الأعراض ويقترف المحرمات , ولا ينبغي للمسلم أن يتجرد للقتال الذي يسميه القرآن جهاداً إلا دفاعاً عن نفسه ودينه ووطنه , وفي غير ذلك تسقط حجة حمل السلاح إلا لحفظ هيبة الأمة وردع المعتدي واتقاء الفتنة ونصرة المظلوم على الظالم . 
وجاء في شرح آيات الصلح والسلام أن يجنح المسلم إلى السلام فيما لو احترم العدو شروط السلام في العدل والأمن من الجور واحترام المواثيق والتزام العهود ومجانبة المكر والتسلط وتمييز المحق من المبطل في فض الخصومات وحقن الدماء .
ومهما كان من أمر اختلاف الفقهاء في أحكام الجهاد فالأصل في نظم الاجتماع الإسلامي هو السلام لأن نصوصه حاكمة على نصوص الجهاد الذي جعله الله سبحانه عقد إيمان بين المسلم وربه وباباً من أبواب الجنة .
وإذا كانت الحروب التاريخية قبل الإسلام قد استمدت مبرراتها لمواجهة الأجانب والأغيار فإن ثقافة الجهاد في الإسلام لا تستمد مشروعيتها إلا لمقاومة الغزاة والأعداء .
وهكذا نرى أن فكرة الجهاد ضرورة تفرضها تحديات هذا العالم الممتلئ بالذئاب , وهي بهذا المعنى الوسيلة المثلى لحماية الإنسانية في جوهر قيمتها على قاعدة : " ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق " – 
وليس بوسعنا القول أن سلاماً غير عادل أفضل من حرب عادلة لأن قرار الحرب والسلم موصول بمنظومة القيم التي تدور مدار حفظ - الوطن والأمة – من شرور الحرب أو شرور السلام , وليس ثمة ضمان لحفظ مستقبل الأمة إلا بالتأسيس لتقوى القوة التي أبطل بها الإسلام نظريات جنون القوة التي اعتادها العالم قبل ظهوره .
ولقد شهدنا في فلاسفة الغرب في عز نهضته من ينادي – بخيرات الحروب – وتعميم منطق الصراع من أجل الحياة بين الأقوياء والضعفاء .
غير أن نظرة واحدة إلى ما بين أيدينا من آيات الجهاد في القرآن كافية بتأكيد نظرية القرآن من أجل الحياة لا بين الأقوياء والضعفاء وإنما بين الحق والباطل أو بين المحقين والمبطلين في معترك الحياة فلا تصير – الحرب – خيراً أو شراً إلا أن تخضع لمنطق ما هو الحق وما هو الباطل في ميزان القيم والأخلاق مع اختلال مقاييس الوعي التطبيقي للإسلام .
ومع تراجع ثقافة الوعي بشهودية المسلم في عصره خسر المسلمون أهليتهم في القضاء الدولي وفاتنا أن القرآن الذي يستنهض الأمة إلى الجهاد يحثها من جهة أخرى على جهاد النفس – بوصفه – الجهاد الأكبر , ثم يحث المقاتلين في سبيل الله على وضع نهاية سعيدة للحرب التي تنتزع نوازع العداوة من قلوب الأعداء ليجعل منهم في خاتمة الحرب بشراً نعيش معهم بمودة الوئام والسلام .
ومن هنا يقدم الإسلام نظرية استصلاح الأعداء فمن استصلح عدوه زاد في عدده , وفي أدبيات الأخلاق الإسلامية الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال .
ولعل أهم ما نقصد إليه في هذا هو تمحيص نزعات الحروب واكتناه دوافعها لنكشف بروح اللغة القرآنية أن الإسلام لا يحمل مشروعاً للصراع من أجل التسلط لأن منهجه قائم على أساس الهداية بوسائل الجدل والحوار بل بوسائل البر والقسط والإحسان وتأليف القلوب .
والمسلم القرآني يستعيذ بالله من شر كل مخلوق خلقه الله : " قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق " – 
ومن أعظم الشرور وأخطرها تحطيم ميزان القيم والأخلاق حتى قيل أن البشرية لم تعرف زمناً في كل عصورها السالفة بلا استثناء تحطمت فيه منظومة القيم كالزمن الممتد من القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة من سيطرة الغرب على العالم ونشوء ظاهرة المستعمرات وتجنيد المرتزقة واستغلال العلوم لإخضاع الشعوب وتزييف هوياتها وثقافاتها ومصادرة حقوقها في الحرية والسيادة والاستقلال .
ولا أعلم حتى الآن تعريف عولمة السيطرة الجديدة في مدى ظاهرة السطو على الأوطان إلا أنها كاشفة عن حقيقة الحملة ضد الإسلام لا بوصفه ديناً وأمة فحسب وإنما بوصفه منظومة من القيم التي يتهرب الغرب من عدالتها كما يتهرب المجرم من قانونية العقاب وشهادات الإثبات ضد جرائمه .
وما بين أطماع الاحتلال القديم وابتلاعات العولمة الجديدة نقف على أدوات جديدة من أدوات الحرب الراهنة هي الحرب بالفتنة والوقيعة بين العرب والمسلمين في أعز انتماءاتهم لحضارة الدين والأمة والوطن .

الشيخ حسين أحمد شحادة