يذكر واحد من المقربين من الدوائر الأمنية أن الولايات المتحدة انعزلت بعد حرب فيتنام عن أي أداء دولي، متأثرة بجراحها، لكنها عادت بعد سنوات للانخراط مجددا في حروب متعددة، في يوغسلافيا السابقة ثم تحرير الكويت إضافة إلى حروب صغيرة هنا وهناك.

ويضيف المصدر أن الولايات المتحدة بعد صدمة 11 سبتمبر بالغت في التدخل في الخارج، لا سيما في أفغانستان، حيث الدوافع مبررة؛ وفي العراق، حيث يسعى رجالات إدارة جورج بوش لمواراة خيبتهم وفشلهم هناك. وهذا الإفراط في التورط العسكري في الخارج هو ما جعل من عقيدة أوباما حاجة أميركية، مجتمعية ومؤسساتية، للوقوف خلف الرئيس في خططه لسحب القوات الأميركية من الخارج ومنع المشاركة في حروب جديدة لا تشكل تهديدا مباشرا لأمن الــولايات المتحدة الأميركية.

يحدثني أحد الأكاديميين الأميركيين، الذين عملوا في فترات سابقة على دراسة الوضع العراقي، أنه التقى في أحد المؤتمرات بالجنرال جاي غارنر، أول حاكم أميركي للعراق بعد غزو عام 2003، وسأله عن رأيه بالإجراءات التي اتخذها خليفته بول بريمر.

أجاب الرجل، بلهجة لائمة، أن واشنطن أخطأت بقرارها حل الجيش العراقي، فقد كان حاجة عسكرية لحماية الحدود، وكانت تكفي إقالة واستبعاد القيادات الكبرى ومعاقبة من يثبت عليه ارتكاب جرائم حرب أو ممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان.

وأضاف أن بلاده أخطأت بحل حزب البعث، فغالبية أعضائه ينتمون إليه لأسباب معيشية تيسيرية في ظل نظام الحزب الواحد، وأنه كان يكفي إبعاد القيادات الأساسية وضرب العمود الفقري العقائدي.

ويقول غارنر أيضا إن إدارة بول بريمر أخطأت في السعي لخصخصة القطاع الصناعي في البلد، والذي يؤمن عيش مئات الآلاف من العراقيين، مستنتجا أن هذه الخطايا الثلاث حولت، بين ليلة وضحاها، ما يقارب الـ10 ملايين عراقي إلى أعداء للوجود الأميركي في هذا البلد.

في ما تكشفه معركة الموصل من امتدادات ما يؤسس لسيناريو عودة الانخراط العسكري الأميركي في المنطقة

تصويب سياسة أوباما

داخل الإدارة الأميركية الحالية من يؤاخذ أوباما على قراره بسحب القوات الأميركية بهذا الشكل من العراق. ويخبرني إيلان غولدنبرغ، مدير برنامج الأمن في الشرق الأوسط في مركز الأمن الأميركي الجديد، أن إعادة إرسال الآلاف من القوات الأميركية إلى العراق في إطار الحرب ضد داعش هي بمثابة “تصويب لسياسة أوباما” وتعويض عن فراغ ترك لسنوات لصالح إيران، مذكّرا أن واشنطن رفعت من مستوى انخراطها في الشرق الأوسط، رغم قلة الضجيج حول ذلك، وأن التواجد العسكري في سوريا والعراق، يضاف إلى ذلك في دول الخليج، وأن الأمر قد يتطوّر في عهد الإدارة المقبلة.

واللافت أن عبارة “الإدارة المقبلة” تتكرر على لسان كل الأميركيين، المسؤولين أو المتخصصين، الذين التقيتهم، وكأن في الأمر ملامة مضمرة لإدارة الرئيس أوباما على إغراق المواقف الأميركية برمادية وتخبط يعجز موظفو الإدارة عن شرحهما والدفاع عنهما، وأن البلاد باتت بحاجة إلى تحوّلات كبرى تعيد تعريف السياسة الخارجية الأميركية والاستراتيجيات الأمنية والعسكرية، حتى أن خبراء الأمن الاستراتيجي والمشتغلين على ملفات المنطقة لا يجدون منطقا في حركة القوات العسكرية من حيث سحبها بتعجل من العراق وإعادتها بارتجال إلى هناك، فيما لا تبدو البراكين السورية جاذبة للإدارة الأميركية ببذل نفس الاستثمار العسكري لمحاربة الخطر الداعشي هناك.

أحمل أسئلة إلى مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية حول الحكاية الجديدة لواشنطن مع العراق، أذكّره بتصريحات الرئيس باراك أوباما الذي برر عدم الانخراط الأميركي العسكري في سوريا بأن “لا أخطار مباشرة على أمن الولايات المتحدة قادمة من سوريا”، فما هي الأخطار المباشرة للأمن الأميركي الواردة من داعش في العراق على النحو الذي يبرر إرسال الآلاف من الجنود الأميركيين والدفع باتجاه معركة تحرير الموصل من تنظيم البغدادي؟

يقول لي المصدر الأميركي الرفيع المستوى إن “تنظيم داعش في سوريا والعراق يشكل تهديدا للولايات المتحدة ولشركائنا في المنطقة، وقد شكلنا تحالفا دوليا من 65 دولة لإلحاق الهزيمة به. الفرق في العراق أنه تم استدعاؤنا من قبل الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي، وتم استدعاؤنا من قبل إقليم كردستان أيضا، فجئنا لتقديم المشورة والعون وتوفير التدريب واللوجيستيات”.

واشنطن أخطأت بقرارها حل الجيش العراقي، فقد كان حاجة عسكرية لحماية الحدود، وكانت تكفي إقالة واستبعاد القيادات الكبرى
أسأله عن موقف واشنطن من مصير الموصل بعد داعش، خصوصا أن سجالا يدور حول ذلك بين سنة وشيعة، بين عرب وأكراد، وبين أنقرة وبغداد.

يرى المسؤول الأميركي أن موقف بلاده الرسمي متمسك بوحدة وسيادة العراق، وهي تعمل مع كافة المكونات العراقية “لتطوير تفاهمات حول مصير الموصل”، لكن أمر ذلك، حسب قوله، هو بيد القوى العراقية المحلية، وأن مهمة الأميركيين، كما حصل في حالات الفلوجة والرمادي وغيرها، هي المساعدة في إعادة الماء والكهرباء وفتح المدارس وتنشيط الدورة الاقتصادية داخل المناطق التي طرد منها التنظيم الإرهابي.

أحدّثه عما يتم تداوله من مخاطر تحيط بمعركة الموصل من حيث أنها قد تطيح بوحدة البلاد، طالما أن لا تفاهم عراقيا حول مصير المدينة، وتشرّع الصدام بين السنة والشيعة كما بين إقليم كردستان وبقية العراق، وترفع منسوب التوتر بين بغداد وأنقرة. أسأله هل تسيطرون على تداعيات المعركة؟

يجيبني بعفوية مباشرة “لا نسيطر على الجدل العراقي الداخلي، نحن نساعد العراقيين ضد داعش، وعلى العراقيين التوصل إلى تلك التفاهمات”، ليضيف بصيغة دبلوماسية حاذقة “لم نلمس من أي طرف عراقي أي منحى نحو التقسيم أو قيام دولة جديدة” داخل العراق.

على أن الأيام الأولى لمعركة الموصل تستدرج توسّعا لميدان المعركة باتجاه الرقة في سوريا. يعلن وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر بدء الاستعدادات لعزل مدينة الرقة، “عاصمة” تنظيم داعـش في سوريا، وكأن الأمر بات ضرورة لإنجاز معركة الموصل.

يشيد الوزير الأميركي بجهود “قوات سوريا الديمقراطية” في منبج، ملمحا إلى ضرورة الاعتماد على “قوى محلية” تعرف البلاد لطرد داعش من الرقّة.


عودة الانخراط العسكري

في ما تكشفه معركة الموصل من امتدادات جديدة، ما يؤسس لسيناريو عودة الولايات المتحدة للانخراط العسكري المباشر في ميادين المنطقة، بما يعطي العلامات الأولى لبداية الخروج من عهد أوباما إلى عهد الرئيس / أو الرئيسة الجديدة للولايات المتحدة الأميركية.

لكن حتى الآن، وحسب غولدنبرغ، لن تعمد واشنطن إلى السيطرة العسكرية من خلال تصدير القوات ونشر مئات الآلاف منها في المنطقة، كما لن تعمد إلى بسط سطوتها العسكرية المباشرة من خلال احتلال المناطق والجهات، بل إن التكتيكات الجديدة، والتي بدأ تبنيها في العراق وسوريا تتأسس على إرسال أعداد قليلة من الجنود المستشارين على أن تعهد المعارك المباشرة إلى قوات محلية يتم التحالف معها، ففي ذلك حنكة التدخل دون التورط ومنح قوى المنطقة أفضلية في تقرير مآلات المعارك وتداعياتها.

 

صحيفة العرب