"فانواتو" ترحب بكم وتفتح لكم أبواب البلاد للعيش والعمل والاستمتاع بحياة أفضل لكم ولعائلتكم بعيداً عن المخاطر والضغوطات".. إعلان أقرب إلى الحلم من الحقيقة، خاصة لأولئك العاطلين عن العمل في بلدهم الام، والنازحين في بلاد باتت تفتقر تلبية أدنى احتياجاتهم الوجودية. الإعلان يتضمن أوصافاً وفيديوهات عن البلد المثالي الملقب بـ"جزر الجنة" والمكون من 80 جزيرة، على بعد حوالي 1750 كم شمال شرق استراليا، ما أدى الى انتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مخيف.. وخطير.
الاعلان لاقى حتى كتابة هذا التقرير أكثر من 165 ألف إعجاب و10,614 إعادة نشر و6 آلاف تعليق، فيما بلغ عدد متابعي صفحة الإعلان التي تحمل إسم "البرنامج الحكومي للجنسية من جمهورية فانواتو" 563 ألف خلال سنة، كل ذلك يعطي فكرة عن حجم القهر واليأس في بلاد الأرز وقبلها العالم العربي أجمع، وهو مؤشر مهم للفجوة التي باتت تتسع يوماً بعد آخر بين الانسان- المواطن وبلده الام، ويعكس فوق ذلك حاجة آلاف للهجرة هرباً من الواقع المأزوم، وكلها عناصر ضاغطة على جرح لبناني متجذر لم يندمل منذ عقود، بسبب الحرب الأهلية بداية، ومن ثم الفشل في مشاريع التنمية في مرحلة ما بعد الحرب، وافتقار اللبناني إلى وجود "دولة" بالمعنى الحقيقي الذي يلبي حاجات في الاستقرار والعدالة الاجتماعية وتنظم حقوقه وتدير شؤونه، خاصةً في ظل أزمة النازحين الذي زادت على العبء عبئاً إضافياً وباتت تنذر بانفجار قادم.. كل ذلك جعل من اللبناني يرى في الهجرة "حلماً"، حتى ولو إلى أبعد جزر العالم، فكيف إذا كانت "جزر الجنة"؟
بين الخداع البصري والحاجة المتزايدة
لكن وفي ظل تقنيات عالم الانترنت حيث تنتشر الصفحات الخادعة التي تستغلها عصابات النصب الالكتروني لتسويق ألاعيبهم، يتبادر إلى الاذهان السؤال التالي: ما مدى مصداقية هذا الاعلان؟ في حديث مع "لبنان 24" تؤكد الناطقة باسم قنصلية "فانواتو" اننا "جهة رسمية ممثلة من البرلمان الحكومي للجنسية من جمهورية فانواتو، والتي من مهماتها استقطاب كل الباحثين عن وطن جديد او جنسية ثانية"، مشيرةً إلى أننا نعمل على مشروع كبير وضخم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتبادل المنفعة بين المواطنين الجدد والدولة الفانواتية".
عن أهداف البرنامج، تقول: "هذا البرنامج ليس برنامجاً للهجرة أو اللجوء، بل برنامج لطلب الجنسية الفورية، وهو موجه لفئة محددة من المجتمع، خاصة أولئك الذين يمتلكون خبرات في قطاعات متعددة، كرجال الاعمال والاطباء والمهندسين، لتحفيز وتنشيط الدورة الاقتصادية في فانواتو"، مشيرةً إلى "أننا نعمل على النوعيه وليس الكمية، فهناك عدد كبير من الطلبات، لكننا ندرس كل حالة بحسب المستوى الاجتماعي والعملي والتعليمي".
وفي سؤال عن البدل المالي المتوجب دفعه، تقول: "أسعارنا أفضل من غيرنا، 170 ألف دولار للشخص الواحد".
محفزات خيالية
الاعلان الحُلم يقول: "يُمكنك اليوم ان تكون مساهماً في جعل حياتك وحياة من تُحب افضل والمشاركة في نهوض وتطوير فانواتو".. أما المقابل فحدث ولا حرج؟ جنسية لمدى الحياة تخولك السفر الى 110 دول حول العالم، حق الاقامة والعمل والاستثمار، لا خدمة عسكرية ولا ضرورة لتعلم لغة جديدة، نمط حياة خال من الضغوطات والخوف، التمتع بكافة الحقوق المهدورة في البلد الام ما عدا الإشتراك بالانتخابات الرسمية ترشُحاً واقتراعاً.. تحفيزات تطرح علامات استفهام حول الشروط اللازمة للهجرة؟ والسؤال الأهم: هل تستقبل الجزيرة الجديدة النازحين؟
وفي هذا الصدد، يشرح قنصل "فانواتو" في اتصال مع "لبنان 24" إن الأوراق المطلوبة هي: السيرة الذاتية، صورة عن جواز السفر، صورة عن السجل العدلي، وبعد الموافقة الاولية من الانتربول، يجب تزويدنا بمستندات إضافية من ضمنها: صورة عن شهادة الميلاد لكل أفراد العائلة، صورة عن عقد الزواج، صورة عن شهادة التحصيل العلمي".
أما عن النازحين في لبنان ومناطق الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، فالبرنامج يضم الجميع، بحسب الشروط المذكورة، ويدرس كل ملف على حدة. أما في حال لم يتواجد الشخص في بيروت، فبإمكانه تقديم طلبه دون الحاجة إلى الحضور شخصياً، وذلك عبر ارسال ممثل قانوني عنه، وفي حال تمت الموافقة على الطلب، يصبح الحضور إلزامياً لرب العائلة او زوجته لاستلام شهادة الجنسية والجوازات.
استنزاف الأدمغة والعقول
هكذا، وفي ظل اهتمام المسؤولين في بلادنا بخلافاتهم السياسية التي لا تنتهي، بتحصيل حقيبة وزارية في الحكومة الجديدة، أو كرسي إضافي في الانتخابات النيابية، أو أي منصب مهم في الدولة، أو حتى الترشح للانتخابات الرئاسية، تعمل حكومات عدة بذكاء ووعي على خطط وبرامج مستقبلية (قبلها بلغاريا وانطاليا وفنزويلا) للاستفادة من أموال وأدمغة وأفكار الشباب اللبناني والعربي، واستغلال الفجوة بين المواطن والدولة لجذبه على شراء جنسية جديدة تعويضاً عن جنسيته في بلده الام. فهل تتخيل كم 170 ألف دولار ستدخل خزائن تلك الحكومات، لتكسب من خلالها مليارات الدولارات، عدا عن الاستثمارات المستقبلية والافكار المتجددة والاختراعات التي ستزيدها تطوراً وحداثة، فيما ثقة اللبناني بدولته تتراجع بشكل مضطرد حتى باتت في الحضيض؟
وفي محاولات متكررة قام بها "لبنان 24" للاتصال بوزارة الخارجية والمغتربين، وتحديداً مديرية المغتربين، أكثر من مرة للوقوف على نِسَب الهجرة، وما إذا كانت الوزارة تمتلك رؤى ومشاريع أو حلول تحفز المواطن على البقاء في وطنه الأم، لم يهتم أحد بإطلاعنا على أي دراسات أو احصاءات أو أرقام تكشف نسبة المهاجرين خلال السنوات الاخيرة، ومن هؤلاء مدير عام المغتربين هيثم جمعة، الذي أبى ان يتحدث، في تصرف أثار الاستغراب، لكنه أيضا يعكس الوضع الذي وصلت إليه بعض الإدارة العامة في لبنان، فلا وزارة تسأل ولا مسؤول يجيب.
باختصار، خلال 3 اشهر وبـ170 ألف دولار قد تصبح فانواتياً، فمبروك عليهم العقول والأموال التي ربحوها، والحسرة علينا بخسارتنا لعوامل القوة في المجتمع، وللهوية العربية وتاريخنا وأصولنا التي بدأت تضمحل عام 1914 حين بدأ تنامي الهجرات باتجاه الولايات المتحدة الاميركية والبرازيل والأرجنتين، ثم في الستينيات والسبعينيات حين تزايد عدد المهاجرين الى استراليا والخليج العربي، وبعدها الى الحرب الاهلية وما رافقها من أعداد هائلة من المهاجرين (ثمانمئة ألف لبناني)، وصولا الى 2016.
لبنان 24