الكلمات القليلة التي نسبت الى وزير الخارجية الاميركية جون كيري، وجرى تداولها بكثرة في الاعلام اللبناني الاسبوع الماضي، حول ترشيح الجنرال ميشال عون للرئاسة، لم يكن لها أي أثر في الموقع الالكتروني للخارجية الاميركية ولا في أي موقع أميركي آخر. لكن البحث ما زال مستمراً عما يشي بأن لدى واشنطن او غيرها من العواصم الاجنبية والعربية المعنية بالشأن اللبناني، موقفاً يريح غالبية اللبنانيين ويطمئنهم الى ان بلدهم ما زال على الخريطة، بعدما كان في يوم مضى، محور الشرق ومدار العالم!
الصمت مطبق، والهمس قليل حول تلك المفاجأة التي أطلقها الرئيس سعد الحريري بترشيح عون بعد تمنعٍ دام 30 شهراً، وكان ذاك التمنع يحظى بمباركة ضمنية من مختلف العرب والاجانب، بمن فيهم الايرانيون انفسهم، الذين كانوا يخشون جميعاً وصول جنرال لا يتصف بالحكمة ولا بالروية ولا بالحيادية، الى رئاسة الجمهورية.. ما يمكن ان يعمق التوترات الطائفية والمذهبية، وما يمكن ان يفتح الحدود اللبنانية السورية على المزيد من المخاطر، ويفقد الجميع السيطرة عليها.
هي مفاجأة فعلاً، لا يستطيع الحريري ان ينسبها الى أحد في الخارج، كما فعل مثلاً عندما اختار النائب سليمان فرنجية، عندما تحدث عن إشارة سعودية وأخرى فرنسية، وعن إيحاء اميركي تبين في ما بعد أنه إجتهاد شخصي من السفير السابق في بيروت ديفيد هيل، الذي لم يستشر وزارته ولم ينسق معها سلفاً، فتعرض لما يشبه التوبيخ من رؤسائه في واشنطن.. برغم ان إسم فرنجيه كان قد وصل الى مسامع الرئيسة الاميركية المقبلة، هيلاري كلينتون، من قِبل صديق العائلة جيلبير شاغوري.
عندما وصفها الحريري بأنها "مخاطرة"، لم يخطر في بال أحد أنه يخاطر مع الخارج أكثر مما يخاطر في الداخل اللبناني، الذي يمكن ان يتعايش مع الرئيس المختار ميشال عون بصفته ترجمة عملية لتوازن قوى طائفي محدد ومعروف. من واشنطن الى باريس الى الرياض، والدوحة التي رعت الاتفاق الشهير في العام 2008 ولم تعد تريد أن تسمع شيئاً عن لبنان، ثمة ما يوحي بأن المفاجأة لم تكن محببة أبداً، وثمة ما يشير الى ان العواصم الثلاث تترقب المزيد من الاخبار اللبنانية السيئة بعد أن يدخل عون الى قصر بعبدا ظافراً، مكللاً بالغار الايراني والسوري وبأكاليل الزهر من حزب الله.
هذا الدخول يمثل بالحد الادنى إخلالاً في توازن القوى المحلي يمكن ضبطه واستيعابه، لكنه يمكن ان يتحول الى تهديد جدي عندما يجري تحويله الى سياسة لبنانية خارجية، مشاركة، أو بالحد الأدنى، موالية لمحور اقليمي يخوض صراعاً ضارياً ولا يقبل من حلفائه واصدقائه أقل من الاسهام المباشر في مجهوده الحربي. بهذا المعنى، يجري تصنيف خطوة الحريري باعتبارها تحدياً فعلياً لكل من واشنطن وباريس والرياض، لا مجرد إجتهاد عابر، دافعه الخفي التعبير عن الاستياء من إهمال العواصم الثلاث له، او السعي الى الحصول على تعويض لخسائره النفسية والسياسية والمالية.
لكن السير عكس التيار العربي والاجنبي يصبح مشروع تفجير جديد للبنان، عندما يجري تحويل الخطاب العوني تجاه النازحين السوريين الى خطاب رسمي. هنا لا تقيم اللغة بمفرداتها العنصرية، الشائعة أصلاً، بقدر ما تقاس بالاستفزاز الذي ستثيره لدى هؤلاء النازحين والخيارات التي يمكن ان يلجأوا اليها للدفاع عن انفسهم، والتي لا تقارن بكل ما شهده لبنان، لا في الحقبة الفلسطينية ولا في اي حقبة أخرى سابقة او لاحقة.
موقع لبنان على الخريطة العالمية، وصفَتُه المعترف بها دولياً الآن، هي إنه مخيم نزوح سوري كبير، لا أكثر ولا أقل: لم يكن ترشيح عون ولن يكون انتخابه رئيساً خطوة نحو إقفال هذا المخيم، او نحو تهدئة سكانه، تمهيداً لإعادتهم الى إرضهم.