لا تملك في واشنطن إلا الشعور بمدى ما يستبطنه هدوء المدينة من نفوذ يتحكم في العالم ويقرر مصائر بلدان. وليس صدفة أن تجثم مباني البنك وصندوق النقد الدوليين في نواح ليست بعيدة عن مواقع القرار في العاصمة.
غير أن ولوج مبنى وزارة الخارجية الأميركية يكشف للزائر مدى تعقّد وضخامة الجسم الذي يقود الدبلوماسية الأميركية في العالم، إذ أن لهذا العالم داخل جدران المبنى الضخم متخصصين وخبراء يبنون من خلال جيش من الموظفين الملفات التي ترسم مسارات السياسة الخارجية التي تحدد للإدارة هامش الخيارات أو التي تحددها الإدارة هامشا لدبلوماسييها.
داخل أروقة عميقة في الطوابق العليا من مبنى الخارجية الأميركية التقيت أحد المسؤولين الكبار في السلم التنظيمي للوزارة المعني بشؤون الشرق الأوسط. وفي تصريحات الرجل، الذي طُلب مني عدم ذكر اسمه، ما يعكس قماشة المزاج الدبلوماسي للإدارة الأميركية في شؤون العالم كما في شؤون الشرق الأوسط. وحين أبادره بسؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة ذاهبة للتخلي عن زعامة العالم والقبول بشراكة في إدارته، حسب ما يرشح من سلوك روسيا ومن تعاطي واشنطن مع الأمر، يصرّح الرجل بما ينفي ذلك تماما.
الخطوط الأولى
يعتبر المسؤول الأميركي أن بلاده في الخطوط الأولى في المجالات التي تهم العالم أجمع: الأمن والتجارة العالمية وحرية التبادلات، وهي في الخطوط الأولى في الشرق الأوسط. ويضيف أن الولايات المتحدة هي الدولة المانحة الأولى في العالم بخصوص تقديم المساعدات الإنسانية في سوريا والعراق ولبنان، و”قد نظّمنا مؤتمرات عدة لتنسيق العمليات الإنسانية ودعم عمليات توفير الاستقرار في سوريا والعراق”.
لكن الأهم من كل ذلك، حسب تصريحاته، أن الولايات المتحدة تقود تحالفا دوليا من 65 دولة لمحاربة تنظيم داعش، و”هذا التحالف هو من يهزم داعش هذه الأيام”، وأن روسيا وإيران ليستا داخل التحالف ولا علاقة لهما به، وأن الدول الـ64 الأخرى في التحالف لبّت نداء الولايات المتحدة التي تمتلك وحدها ثقة تزعّم تحالف دولي واسع من هذا النوع. على أن تلك المقدمة للمسؤول الأميركي هدفها التمهيد لتبرير ذلك التقدم المنافس لروسيا والذي بات حقيقة وقد يعد بأن يصبح أمرا واقعا.
يضع محدّثي الواقع الروسي ضمن السياق السوري. ويعيد تكرار الموقف الأميركي الذي لئن أكد أن “النظام السوري يقتل شعبه” فإنه يعتبر أن أفضل طريقة لوقف شلال الدم هي “محاولة دفع روسيا للضغط على النظام”. ومع ذلك فإن المسؤول الأميركي لا يعتبر روسيا شريكا، بل يقرّ بأن التعامل معها بات إلزاميا في الملف السوري، فالمجزرة غير مسبوقة؛ إذ “كيف يعقل ألّا نتحاور مع روسيا في هذا الشأن؟”.
أسأله لماذا تتركون أمر سوريا لروسيا، ثم إذا كانت موسكو تناصر النظام فلماذا لا تقدمون الدعم الكافي للمعارضة؟ لا يتردد في الإجابة بقوله “ها أن النصرة تعارض النظام، فهل تريدنا أن نسلّح النصرة؟ نقدم في سوريا ما يوفّر ما هو لوجستي وإنساني لكن لا يعني الدعم أن تتورط الولايات المتحدة في نزاع مسلح في سوريا (…) نعتقد أن الحلّ الوحيد هو الحلّ الدبلوماسي”. أبادره “حلّ دبلوماسي من خلال روسيا؟”، فيقول “إذا كانت روسيا ستساعد في الأمر فذلك سيكون جيدا وإلا سنلجأ إلى حلّ آخر”.
الولايات المتحدة تقدم في سوريا ما يوفر ما هو لوجستي وإنساني، لكن لا يعني الدعم أن تتورط في نزاع مسلح في سوريا، واشنطن تعتقد أن الحل الوحيد هو الحل الدبلوماسي
لا يفصح المسؤول الأميركي عن ماهية الحلّ الآخر، لكني أذكره بتصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال إن سوريا ليست مهمة (بمعنى المصالح) بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وبتصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي لا يرى خطرا مباشرا على بلاده مصدرة الأزمة في سوريا، لأستنتج أن واشنطن غير معنية بهذا البلد.
يقول إن للولايات المتحدة مصلحة في وقف القتل في سوريا لأن “الأزمة تسبب تضخم أعداد النازحين الذين يسببون ضغوطا على دول أخرى مثل لبنان والأردن، كما أن هذا القتل يمنح الإرهابيين في العالم مسوّغا للالتحاق بتنظيم داعش، وهذا ضد مصلحتنا لأنه يشكل تهديدا لأمننا وأمن شركائنا في المنطقة”، ومع ذلك يضيف “هذا لا يعني أن نلجأ إلى تورط عسكري في سوريا”.
أمن إسرائيل
أصارحه بأن في المنطقة اقتناعا بأن المصلحة الوحيدة للولايات المتحدة في سوريا هي أمن إسرائيل، وأن المرة الوحيدة التي تحرّكت فيها واشنطن بحزم في الملف السوري كانت حين تمّ استخدام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق، ما اعتُبر اختراقا للخطوط الحمر التي تهدد أمن إسرائيل. لا ينفي الدبلوماسي الرفيع ما يربط الولايات المتحدة بإسرائيل من تعاون في مجالات الأمن، لكن “مصالحنا من سحب السلاح الكيميائي تتجاوز العامل الإسرائيلي، ولا أوافق الرأي القائل بأن إسرائيل كانت أولويتنا في هذا الشأن، بل إن في الأمر مصلحة لبلدان المنطقة والشعب السوري، فتلك الأسلحة تشكل خطرا على لبنان وتركيا مثلا، ثم إننا لا نريد انتشار هذه الأسلحة في المنطقة”.
أسأله هل صمود حلب أو سقوطها سيان بالنسبة إلى واشنطن، أم أن في الأمر تفضيلا؟ يجيب “ما يغضبنا هو المجازر التي ترتكب بحق المدنيين”. وهل يكمن الحلّ، كما قد يروّج، في إعادة تعويم الأسد والقبول ببقائه؟ يأتي الجواب واضحا “سياستنا اليوم هي أننا لا نقبل بهذا الحلّ، النظام يجب أن يتغيّر، وعلى بشار الأسد أن يترك السلطة لكي يعود البلد موحّدا”. قبل أن انتقل معه إلى ملفات أخرى سألته عن الضجة التي أثارها الاتفاق الذي قد يؤدي إلى انتخاب رئيس في لبنان، لا سيما أن الأمر يجري مخالفا لما هو تقليدي في تاريخ البلد من أن يمثّل الرئيس تسوية دولية إقليمية، ابتسم المسؤول الأميركي ونطق بكلمات مدروسة “لا نتخذ أي موقف من هذه المسألة”.
محمد القواص: العرب