قبل أربعة أشهر، سُئل قيادي مقرّب من الرئيس سعد الحريري عن تأكيدات وزير الداخلية نهاد المشنوق بأنه سيكون للبنان رئيس في نهاية الصيف، فأبلغ سائليه أن الملف الرئاسي حُسِم، وأن الإتفاق تمّ على العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية والرئيس الحريري رئيساً للحكومة، وأضاف أن الإنتخاب لن يتمّ في الجلسة المقبلة، وإنما في التي تليها أي الجلسة 45.

فوجئ الحاضرون ووضعَ غالبيتهم هذا الكلام في إطار التكهنات أو التمنّيات. ولدى مقاطعة مضمونه مع مسؤول بارز في «حزب الله»، إستغرب ما سَمِع، وكشف أن مُمثلي «تيار المستقبل» في الحوار الثنائي طرحوا فعلاً على ممثلي «حزب الله» سؤالاً عن موقف «الحزب» في حال أيَّد الحريري ترشيح عون، غير أنه نفى جازماً وجود أي معطيات جديدة تَشي بإحداث خرق في الجمود الرئاسي.

ولم يكتفِ بذلك، وإنما أضاف جملة من الأسباب الإقليمية والدولية المُعاكسة لإمكان صوغ تسوية رئاسية محلية.

في هذه المرحلة، ساد كثيرٌ من التشكيك في جدّية الحريري أو قدرته على تبنّي ترشيح عون.

وفي المقابل كان هناك تشكيك في إستعداد «حزب الله» القبول بتسوية داخلية من هذا النوع تُعاكس المناخات الإقليمية التي بلغت الذروة في الإحتقان والإشتباك.

في المرحلة الثانية، عندما بدأت تتكشّف حقيقة أن الحريري يتجّه فعلاً نحو خيار عون، إشتعلت رسائل التحذير المباشرة وغير المباشرة، لثني الحريري عن المضي قدماً في إعلان تأييده ترشيح عون.

فكانت السقوف العالية والممرّات الإلزامية والقنابل الدخانية، لكن من سعى الى تطويق إتفاق عون-الحريري، سرعان ما وجدَ نفسه مطوّقاً بعد ساعات من إعلان موقف الحريري.

في المرحلة الثالثة، إختلطت الأوراق تماماً. وما كان يُعتقد ‏مناورة بات أمراً واقعاً. هنا تهيَّب «حزب الله» ‏والرئيس نبيه بري الخيارات التي باتا أمامها، وهي تنحصر في إثنين:

إمّا قبول مبادرة الحريري، وإمّا رفضها.

واتفق الطرفان على وصف الخيارين بالمكمَنين والفِتنتين.

إذا وافق «حزب الله» على التسوية كما أتت، يُخاطر في مواجهة مع برّي وحركة «أمل» في كل منطقة وحيّ وشارع ومنزل في البيئة الشيعية، وهذا ما لا يريده «الحزب» ولا الرئيس برّي.

وإذا رفض «الحزب» هذه التسوية، فإنه حتماً سيواجه شرخاً كبيراً مع عون و»التيار الوطني الحر».

وفي هذه الأثناء، بلغ التشنّج القمة بين جماهير الثنائي الشيعي وانعكس التوتر على صفحات التواصل الإجتماعي.

وأصبح السؤال الأساسي: ماذا سيفعل «حزب الله»؟

حاول «الحزب» تدوير الزوايا بين برّي وعون. رفعَ شعار «لا لكسر برّي». حاول التوسّط وإرجاء جلسة الإنتخاب تقنياً لإفساح المجال أمام توسيع إطار التفاهمات وإنضمام برّي شريكاً الى التسوية. وطلبَ من عون التفاهم مع رئيس مجلس النواب.

رفضَ عون والحريري التأجيل خوفاً من دخول أي عامل قد يُطيح الإستحقاق ويُبعده أشهراً إضافية. ولم يقبل برّي بدوره أن يكون «كاتب عدل»، على حدّ تعبيره، للمصادقة على تفاهم ثنائي بين عون والحريري. رفضَ أن يُبلَّغ من الحريري. إما أن يكون شريكاً كاملاً أو مُعارضاً شرساً.

توالت الإجتماعات السرّية ليلاً ونهاراً. وتكدّست حسابات الربح والخسارة. شعرَ الفريقان الشيعيّان بأن هناك من يتلاعب فيهما، واتفقا على ردّ اللعبة لأصحابها «عم يلعبوا فينا؟ نحنا رح نلعب فيهن»...

في هذه اللحظة، ‏تبدّلت الأجواء. تراجعَ الرئيس برّي عن شروطه وأوقف حربه موقتاً، ورضيَ بتسهيل جلسة الإنتخاب. ووَضَّب حقائبه للسفر. أمّا «حزب الله» فزاد صمته صمتاً، وفي فمه ماء، حتى أطل السيد حسن نصر الله كاشفاً جزءاً من خطة التعامل مع التسوية.

قرّر الحزب إسقاط «كمين» مواجهته مع العونيّين، بالتوافق مع برّي على قطف ما زرعه منذ سنوات، بانتخاب عون والموافقة على تكليف الحريري تشكيل الحكومة. وهذا ما يُعتبر نصراً كبيراً لخطّه وخياره، وثبات موقفه وإصراره على عون مرشحاً لا بديل له.

وقرر «الحزب» أيضاً إسقاط «كمين» المواجهة الشيعية-الشيعية، بمنح برّي دفة القيادة في ‏محاسبة الحريري ومحاصرته في مرحلة ما بعد الإنتخاب، في التشكيل والحقائب والتوازنات والبيان الوزاري وقانون الإنتخابات والتعيينات العسكرية والأمنية والإدارية وغيرها.

كل الحسابات الإقليمية سقطت، وكل الرهانات المحلية تبدّلت. ويبقى السؤال اللغز: هل تنفّذ التسوية كاملة، أم أنها تتعرّض لـ «عبوات» سياسية تُحوِّلها نصف تسوية في مرحلة ما بعد الإنتخاب؟

 

 

جورج سولاج