بدأت روسيا بتصعيد عملياتها العسكرية على القسم الشرقي المحاصر من مدينة حلب بعدما فشلت في إجبار سكانها من مدنيين وعسكريين على الخروج من مناطقهم وتهجيرهم إلى أماكن أخرى، وذلك من خلال الهدنة التي أعلنتها لهذا الغرض، والتي انتهت آخر مهلة لها مساء السبت. وتزامن التصعيد الروسي مع تصعيد مماثل من المعارضة المسلحة في حلب، والتي أكد عدد من قيادييها أنها تعد العدة لمعركة حاسمة لفك الحصار عن القسم الشرقي من المدينة، معلنة انطلاق العد العكسي لما سمته "الملحمة الكبرى" التي يمكن أن تنطلق بين يوم وأسبوع كحد أقصى.
وترجّح المعطيات أن يبدأ الروس بتصعيد هجماتهم على حلب ومحاولة كسب الوقت، مستغلين انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية، من أجل محاولة حسم المعركة في حلب لصالح النظام وتمكينه من السيطرة على أكبر مساحة ممكنة. وبذلك يمكن للنظام أن يمتلك ورقة قوة في يده وأن يحاول بالتالي فرض الحل السياسي الذي يناسبه وينسجم مع الرؤية الروسية، في حال تم استئناف المفاوضات، أي إعادة هيكلة النظام بحيث يكون ولاؤه لروسيا بما يمكنها من تحقيق أهدافها من خلاله.
ويبدو أن الروس يحاولون من خلال ملف حلب أن يستعيدوا دورهم أمام دول الاتحاد الأوروبي كقوة عظمى ندية للقوة الأميركية، وبالتالي الضغط من خلال تحقيق انتصار في حلب لحلحلة ملفات أخرى لموسكو مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وبنفس الوقت تستفيد روسيا من دعم النظام في معركة حاسمة في حلب، لتجريب المزيد من الأسلحة الروسية الحديثة التي لم تختبر بعد في المعارك.
ومن وجهة نظر أخرى، يمكن تفسير حديث فصائل المعارضة المسلحة عن ملحمة كبرى في حلب قد تؤدي إلى السيطرة على كامل المدينة، على احتمال وجود نية لقوى غربية بتوجيه صفعة للروس. ويمكن حصول ذلك من خلال تقديم دعم لمعركة تمكّن المعارضة من فك الحصار عن الجزء الشرقي من المدينة، وتهديد مناطق سيطرة النظام في الجزء الغربي منها. وقد تركت الولايات المتحدة روسيا تتورط بالمستنقع السوري وبارتكاب جرائم حرب في سورية، يمكن أن تستخدمها واشنطن كورقة ضغط على الروس، ولا سيما أن هناك تذمراً أوروبياً عاماً من المواقف الروسية المتعنتة حيال الملف السوري والتي كان آخرها استخدامها حق النقض في وجه مشروع قرار تقدمت به دول من الاتحاد الأوروبي.
وقال رئيس هيئة أركان "الجيش السوري الحر"، العميد أحمد بري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "المعارك أساساً لم تتوقف في حلب، والفصائل الثورية تصد يومياً هجمات النظام والمليشيات الإيرانية واللبنانية على جبهات القتال"، مشيراً إلى أن "التحضيرات جارية بشكل دائم، وهناك تنسيق مستمر من أجل الدفاع عن حلب من المحتلين الروس والغزاة الإيرانيين". وفيما تحفّظ القيادي العسكري في المعارضة السورية، الذي انشق قبل سنوات عن قوات النظام السوري، عن التوسع بالكلام الذي عن نية المعارضة بدء "معركة كبيرة" في حلب، أكد في المقابل، أنه "لا يمكن الكشف عن كثير من الأمور الآن لدواعي تتعلق بالوضع الميداني فائق الحساسية"، مضيفاً أن "المعركة التي تحدث عنها قياديون في فصائل ثورية (مثل نور الدين زنكي وغيرها) قد تنطلق في أي لحظة، وحسب الظروف على الأرض، من الممكن أن نبدأ خلال يوم أو أسبوع أو أكثر".
وأكد بري الذي كان يجري جولة على جبهات القتال شمالي سورية ظهر أمس الأحد، أن "الجيش السوري الحر وباقي الفصائل لم ولن تترك أهلنا المحاصرين في حلب وحدهم، فإما ننتصر معاً أو نموت معاً"، مضيفاً أن "هدف روسيا وراء طلبها إخراج مقاتلي فتح الشام من حلب، هو زرع الفتنة لخلخلة القوة العسكرية في حلب ولن نقبل بهذا المطلب إطلاقاً". وتساءل "لماذا يريدون أن يضغطوا علينا من أجل إخراج فتح الشام (النصرة سابقاً) على الرغم من أن أكثر من 90 في المائة من مقاتليها هم سوريون، ولا يتحدث أحد من العالم عن إخراج المليشيات الطائفية الإيرانية واللبنانية والعراقية من سورية؟".
وعلى الرغم من عدم وجود بوادر ظاهرة لبدء معركة كبرى بشكل فعلي على الأرض إلا أن "غرفة عمليات فتح حلب" بدأت بدعوة المدنيين في مناطق سيطرة النظام إلى الابتعاد عن المقار العسكرية وخطوط التماس، نظراً لما تتطلبه معركة فك الحصار عن حلب وحفاظاً على سلامة المدنيين بحسب ما جاء في بيان "غرفة عمليات فتح حلب". وأكد مصدر عسكري من المعارضة المسلحة في حلب لـ"العربي الجديد" أن قوات النظام فشلت فجر أمس الأحد في التقدم على جبهة حي الشيخ لطفي جنوب شرقي حلب، موضحاً أن محاولة التقدم تزامنت مع اشتباكات عنيفة بين الأخيرة والمعارضة السورية على جبهة "مشروع 1070 شقة" جنوبي حلب. وبيّن المصدر أن محاولات تقدم قوات النظام جاءت بالتزامن مع غارات جوية للطيران الحربي الروسي شنها على كل من حي الراشدين و"مشروع 1070 شقة"، وسوق الجبس في المنطقة القديمة شرقي حلب، بالإضافة إلى غارات مماثلة على بلدات ياقد العدس وكفر حمرة ومعارة الأرتيق وخان العسل، وعندان وكفرناها في ريف المدينة، موضحاً أن الغارات لم تسفر عن وقوع إصابات بشرية.
وقتل عناصر من قوات النظام أمس، كما جرح آخرون من جراء محاولة اقتحام المنطقة الشرقية في حلب من محاور حي العامرية، وحي صلاح الدين، وقلعة حلب. وأعلنت فصائل المعارضة في وقت متأخر من ليل السبت عن مقتل 13 عنصراً من قوات النظام، أثناء محاولتهم التقدم على جبهة صلاح الدين-العامرية في مدينة حلب الأثرية، وحي السبع بحرات، وذلك بعد انتهاء الهدنة التي أعلنها نظام بشار الأسد من طرف واحد صباح يوم الخميس الماضي.
وأكدت مصادر عسكرية لـ"العربي الجديد" أن نظام الأسد يحشد منذ عدّة أيام، المزيد من قواته، إضافة إلى المليشيات التابعة له، ويعزز من آلياته ومدرعاته حول المنطقة الشرقية التي يحاصرها في حلب. ورأى نائب رئيس الوفد المفاوض في الهيئة العليا للتفاوض، جورج صبرة، أنه لا يصح ووصف ما تقوم به روسيا بالهدنة الإنسانية، بل إن مشروع روسيا يهدف إلى مساعدة النظام باقتحام حلب، ولا سيما بعدما أعلن الروس صراحة إبقاء الأسد في سدة الحكم. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد" أنه خلال أربع سنوات من تحرير حلب لم يجرؤ النظام على الاقتراب منها، لكنه يصر الآن على ذلك، لأن الاحتلال الروسي يريد التمويه على وجهه البشع والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، والتي لاقت استنكاراً دولياً، وذلك من خلال تمهيد السبيل لعسكر بشار لاقتحام المدينة. وتابع أن ذلك ظهر بوضوح عندما أسقط النظام منشورات خيّرت الناس بين الباصات الخضراء أو الموت، وهو خيار بين موت وموت، مشيراً إلى أن أهل حلب اختاروا الحياة بعزة أو الموت ببطولة، وهذا رأيناه في المظاهرات الرافضة للخروج، وفق قوله.
وقال صبرة إن أي مشروع إنساني يجب أن يبدأ بوقف إطلاق نار شامل وفتح الممرات لإيصال المساعدات إلى المدنيين بأماكنهم، وليس فتح ممرات لإخراج الناس من بيوتهم. وأوضح أن الهدنة الإنسانية يحددها مجلس الأمن وليس هدنة يعلنها وزير الدفاع الروسي وحده، لذلك من الطبيعي أن تكون فاشلة، على حد وصفه.
وتوقع صبرة أن تعود روسيا لتكثيف هجماتها على مدينة حلب، لأنه في الأوضاع العادية لا يتجرأ النظام وبقاياه في الهجوم على حلب، وخيار إبادة حلب إنما هو خيار الروس ليطبّق في حلب، وقد تحدث عنه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في اجتماع لندن أخيراً، بحسب صبرة الذي أضاف أن المعارضة السورية تتوقع أياماً صعبة على أهل حلب الذين يعانون من دون أن تتمكن الأمم المتحدة من فعل شيء لإخراج الجرحى بعد قصف المؤسسات الصحية. وتابع أن التوازن الدولي اختل منذ اللحظة التي قرر فيها الروسي أن يحتل سورية بلا رادع دولي، واختل منذ الفراغ في السياسة الأميركية في المنطقة عموماً وسورية خصوصاً، إذ خذلت الولايات المتحدة أصدقاءها في المنطقة، مثل تركيا والسعودية، وخذلت الحريات التي يتحدث عنها الأميركيين ليلاً نهاراً.
ولفت صبرة إلى أن المعارضة استجابت لاتفاق الهدنة بين الروس والأميركيين، لكن النظام والروس خرقوه، بحسب تأكيده. وكان رد واشنطن وقف الاتفاق، فيما كان رد موسكو على الموقف الأميركي عبر تكثيف القصف على حلب من دون حدود، خاصة بعدما أبطل للمرة الخامسة صدور قرار بمجلس الأمن. وتابع نائب رئيس الوفد المفاوض أن المعارضة السورية تعول على الدور الأوروبي، ولا سيما الفرنسي والألماني والبريطاني، والذي يتحدث عن إمكانية تحويل المجرمين بمن فيهم الروس إلى المحاكم المختصة، خصوصاً بعد بروز تقارير لجان التحقيق حول استخدام الأسلحة الكيمائية.
وختم صبرة قائلاً إن المعارضة السورية تنتظر المبادرة الأوروبية وأن تنتقل من النصوص إلى الإجراءات على الأرض، مشيراً إلى أن هناك إمكانية لإسقاط المساعدات على المحاصرين في حلب، وهناك حاجة لدعم المقاتلين في المدينة للدفاع عنها بعد إبدائهم استعدادهم للدفاع عن حريتهم. كما أمل ألا تكون السياسة الأميركية كابحاً للمشروع الأوروبي كما كبحت سابقاً حركة تركيا والسعودية والمشاريع الأوروبية السابقة.