في الثالث عشر من تشرين الأول 1990، خرج الضابط ميشال عون من القصر الجمهوري، مهزوماً. كانت هزيمته الأولى، عندما أقر النواب اللبنانيون اتفاق الطائف في مدينة الطائف السعودية، وهزيمته الثانية، عندما قررت «القوات اللبنانية» بشراكة كاملة مع بكركي، أن تشكلا معاً رافعة مسيحية للمظلة الإقليمية ـ الدولية التي كرّست وثيقة الوفاق الوطني، وهزيمته الثالثة، عندما نجح حافظ الأسد في انتزاع تفويض دولي ـ إقليمي، بعد مشاركته في حرب تحرير الكويت، فكان له وحده ملف لبنان، وكان ميشال عون هو أولى ضحايا التفويض.
في الحادي والثلاثين من تشرين الأول 2016، أي على مسافة أكثر من ربع قرن من هزيمة عون على يد «الطائف» وأدواته المحلية والخارجية، سيدخل «الجنرال» الى القصر الجمهوري، بصفته وصياً على إعادة تجديد خلايا «الطائف» لمدة ست سنوات، هي المدة الكاملة للعهد الرئاسي.
هو مشهد سياسي جديد، يغادر معه العماد ميشال عون كل تاريخه الانقلابي، ويصبح حارسا للصيغة التي طالما كان يشكو منها وينتظر «اللحظة التاريخية» للانقضاض عليها، فإذا بالفرصة الرئاسية، لا بل الرئاسة نفسها، تجعله يعيد النظر في أدبياته.. وصولا إلى إعادة صياغتها بما يتلاءم وبدلة الرئاسة الأولى.
نجح ميشال عون في اجتذاب «حزب الله» قبل الآخرين منذ سنتين ونصف سنة، فكان السيد حسن نصرالله صادقا في التزامه معه منذ اليوم الأول، لا بل جرت مسايرته في مرحلة ما، بحيث لا يكون «حزب الله» أول من يبايعه رئاسيا، فتأجل الإعلان الى اللحظة التي اختارها «الجنرال».. وهكذا كان.
و «غلطة الشاطر بألف غلطة». لم يقلها سعد الحريري بالفم الملآن أمس. لكنها الحقيقة المؤلمة التي لطالما صارح بها البعض في الداخل والخارج. كان ترشيح سليمان فرنجية خطوة استباقية تهدف الى كسر مسار متدحرج كانت تبدّت ملامحه منذ التفاهم على «إعلان النيات» بين «القوات» و «التيار الوطني الحر» في بداية صيف 2015. شعر الحريري أن كل ما صنعه وراكمه منذ 10 سنوات ذهب هباءً.. وها هو حليفه المسيحي الأول سمير جعجع يضع يده بيد الخصم المسيحي الأول ميشال عون. لذلك، صار وصول فرنجية سلاحاً بحدين، أولهما كسر التحالف الماروني الجديد وثانيهما إحراج «حزب الله» بمرشح لا يمكن أن يرفضه.
نام سليمان فرنجية قبل سنة تقريبا، رئيساً للجمهورية، لكن سرعان ما تبين له أن «حزب الله» لا يناور والالتزام واضح ولا يحتمل أي التباس. طار المشروع الحريري الثاني ليس بسبب رفض «حزب الله» بل عندما قال جعجع بالفم الملآن من معراب: «مرشحي لرئاسة الجمهورية هو ميشال عون».
بهذا الإعلان، «ذبح» رئيس «القوات» حليفه سعد الحريري. صحيح أن المستهدف من خطوة جعجع هو إسقاط ترشيح فرنجية نهائياً، وليس الخروج من آل الحريري، لكن ما بعد تلك الخطوة لا يشبه ما قبلها، حتى نظرة رئيس «المستقبل» الى جعجع تغيرت جذرياً، برغم التكاذب الدوري المشترك بين الجانبين.

أما وأن الحريري له أسبابه الشخصية من وراء العودة الى السرايا الكبيرة، فقد أوجد له من هم حوله من «أصدقاء» و «مستشارين» ووزراء مخضرمين، الفتوى الموجبة: أنت تفتدي «الطائف» بترئيس ميشال عون. هذه بضاعة لا تكسد. يمكن تسويقها في السعودية وعند كل حريص على الصيغة ومن خلالها على الاستقرار.. والأهم عند جمهورك.
هذا هو جوهر خطاب الحريري، أمس، في معرض سرده للأسباب الموجبة لترشيح عون. لم يتحدث الحريري عن تفاهم أو صفقة لكنه أشار صراحة إلى وجود اتفاق سياسي كامل يشمل كل سنوات العهد، أول حروفه أن يكون الحريري رئيسا لكل الحكومات (وهو التزام نظري)، لكن الأهم عدم المس بالطائف وتحييد لبنان عن الصراع السوري وإطلاق عجلة المؤسسات وتحريك الاقتصاد. لكأنه قالها بصراحة لـ «الجنرال» إن مسؤوليتك أن تعينني.. «فأكون سعدك».
لم يقنع الحريري أهل بيته بخياراته وهو كان يتمنى لو أن «الجنرال» أعانه قبل ذلك، بأن يسحب سلسلة ألغام من هذا الدرب السياسي الجديد في لبنان. درب يرسم مسارات جديدة ويخلط أوراق جميع الفرقاء، بما فيها معسكرات الثامن والرابع عشر من آذار وما بينهما من وسطيين أو «منتظرين».
الدليل على ذلك ما أصاب علاقة الحريري بالرئيس نبيه بري وليس ما أصاب علاقة الأخير بالعماد عون. ليس هناك حد أدنى من العتب في عين التينة لا على «الجنرال» ولا على «حزب الله». هذان الاثنان يترجمان ما اتفقا عليه في السر والعلن، ولكن الأزمة مع سعد الحريري الذي كان قد التزم أكثر من مرة مع بري وسرعان ما بدد التزاماته وأخلّ بها. هذا الكلام بلغ مسامع سعد الحريري من المعاون السياسي لبري الوزير علي حسن خليل، مثلما سمعه، ليل أمس، نادر الحريري من خليل في جلسة الحوار الثنائي بين «المستقبل» و «حزب الله» في عين التينة، وهي كانت جلسة رئاسية بامتياز كادت تنقلب فيها الأدوار والإدارة، حتى أن الحاج حسين الخليل، لعب دور الراعي، محاولا تذليل شقة الخلافات بين «المستقبل» و «أمل»، لكن الوقائع كانت تترجم في الطبقة الثانية من عين التينة.
فقد كان استقبال الرئيس نبيه بري للعماد عون فاترا وباردا وقصيرا ولم تتخلله لا حفاوة بروتوكولية ولا غذائية ولا مشهدية. كان الرئيس بري صريحاً مع «الجنرال»: مشكلتي ليست معك. أنا ملتزم بحضور جلسة 31 تشرين وسأصوّت ضدك، وإياك أن تسمع لمن يقول لك إنني سأقاطع. لكن الأهم من ذلك كان تأكيد بري أنه لن يعطي صوته لسعد الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة، «وأنا ملتزم منذ الآن بعدم تسميته رئيسا للحكومة، وقراري حاسم بالذهاب إلى المعارضة».
يشي مشهد البارحة باختلاف الأدوار والتحالفات. هنا، ثمة استدراك جوهري. تحالف «حزب الله» و «أمل» هو «تحالف استراتيجي ثابت ولا يتزحزح»، وهذه النقطة سيؤكدها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله يوم الأحد المقبل في احتفال ذكرى تأبين الشهيد «الحاج علاء»، وسيضمّن خطابه المتلفز تأكيدا لأهمية الحوار والانفتاح وإبرام التفاهمات الضرورية لحماية العهد الجديد.
ماذا بعد؟
لننتظر «برمة العروس» التي ستقود «الجنرال» إلى دارة وليد جنبلاط ومن بعدها إلى بنشعي ومعراب، والأهم أن تكون العيون مفتوحة على الأمن في هذه الأيام العشرة الفاصلة عن جلسة الانتخاب. كل التجارب تشي بأن مسارات كهذه لم تنكسر إلا بالأمن.