عندما يصر الرئيس سعد الحريري على تعميق الحفرة التي وقع فيها، فإن العمل على إخراجه منها يصبح من ضروب المستحيل، لا سيما إذا ظل يعتبر أن أي يدٍ تُمدّ له بين الحين والآخر، تخفي سكيناً وتريد طعنه في الظهر، لتنهي دوره السياسي وتسدل الستار على بيت العائلة الذي أُفرغ من محتواه منذ إغتيال والده الراحل رفيق الحريري.
من حق الشيخ سعد، بل ربما من واجبه، وهو الذي بلغت أزمته المالية مبلغاً خطيراً لم يكن يتوقعه أحد حتى من الاعداء والخصوم، ان يفقد الثقة بالجميع، لا سيما الأقربين منهم، الذين لم يبق منهم كثيرون أصلاً. ومن حقه أيضاً ان يشتغل بالسياسة بوصفها تعويضاً عن الخسائر المالية، وتفويضاً لاسترداد بعضها. لا ملائكة ولا أشراف في لبنان يمارسون السياسة من أجل الخدمة العامة، أو من أجل تحقيق الرسالة السامية، او حتى من أجل التاريخ.
الأزمة المالية فاضحة، لكنها ليست خاتمة للحياة السياسية. وما يقال بأن مصدرها ناجم عن سوء الإدارة وخلل التخطيط و فشل التنظيم، ينسحب اليوم على السلوك السياسي المأزوم، الذي يعمق الحفرة إياها، ويقدم كل يوم الدليل على أن الضعف ليس ناجماص عن تآمر أو تواطوء من الخارج البعيد والقريب، بقدر ما هو ناتج عن نزوع خاص الى تمثّل صورة الضحية من أجل طلب العطف أو حتى إستدراج الرحمة.. من بيئة سياسية لا تعرف مثل هذا التقليد ولا تعترف به.
ويبدو أن الرئيس سعد الحريري بات يسمح بإستضعافه أكثر بكثير مما يبيح وضعه الضعيف أصلاً. والرئاسة مثال واضح. هو ما زال يترأس الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان الحالي، والتي كان يمكن أن تصمد حتى الانتخابات النيابية المقبلة، لكنها تتآكل وتكاد تتلاشى، بفعل خيارات سياسية لا تقل سوءاً عن الخيارات الاقتصادية التي أسفرت عن تلك الأزمة المالية المستعصية.
الشعور بالمسؤولية عن سد الفراغ الرئاسي، طوال عامين ونصف العام، كان ولا يزال مبالغاً فيه، وهو ليس شأن الكتلة النيابية الأكبر، ولا الخطر الأهم الذي يتهددها. هو شأن كتل ودول أخرى، لم يحصل الحريري حتى اليوم على موافقتها أو على تأييدها لأي من ترشيحاته الرئاسية.. لا سيما الترشيح الأخير للجنرال ميشال عون. وكل ما يقال عكس ذلك، مجرد تخمينات وتقديرات وتمنيات لا أكثر.
ولعل أغرب ما في هذا الترشيح أنه قدّم برهاناً جديداً على الوهن السياسي الذاتي. فالجنرال لم يوقع التفاهم الشهير مع حزب الله، لأنه يعبر عن قرار استراتيجي للتيار العوني، وهو لم يتوصل الى "إعلان المبادىء" مع القوات اللبنانية، لأنه يعكس خياره الفكري او حتى الطائفي. كما أن التنقل بين هذين النقيضين لم يؤثر في شعبية الجنرال ولا في مصداقيته. بل لعله زادهما.. كما ضاعف من شعبية الحزب والقوات، اللذين اكتسبا صفات مفرطة مثل الحكمة والحنكة والمسؤولية وغيرها!
من دون مقابل، ومن دون سند، داخلي أو خارجي، توجه الحريري نحو الجنرال. لم يفاوضه حتى الآن على التوقيعين السابقين، وعلى تواقيع أخرى عديدة كانت موجهة حصراً ضده وضد تياره وجمهوره وبيئته. وبحجة أنه ليس هناك ضمانة ممكنة، لم تُطرح حتى الآن أيضاً فكرة انتزاع توقيع جديد من الجنرال، يهدىء الغاضبين من ذلك التوجه ويستوعبهم، ويتعهد بإبعاد الرئيس ميشال عون عن حلفائه الحاليين، ووضعه في منطقة وسطى بين المتخاصمين.. ويكفل تالياً رئاسة الحكومة المقبلة، وأيضاً تشكيلتها المستحيلة في ضوء الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية.
الرئيس سعد الحريري ما زال هاوياً. قدرته على ممارسة تلك الهواية تضعف يوماً بعد يوم.. طالما أنه لم يلاحظ ان الفراغ الرئاسي أفضل بما لا يقاس من ترشيحاته العشوائية، التي تعمق الحفرة بدل أن تخرجه منها.