انعقد مؤتمر لوزان في سويسرا بدعوة أميركية وروسية، فيما كانت روسيا أوّل من أعلن عن انعقاده قبل أقل من أسبوع وحضرت الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الأزمة السورية وعلى مستوى وزراء الخارجية. الولايات المتحدة الأميركية كانت أعلنت وقف الاتصالات بشأن الأزمة السورية مع روسيا، وصارت الإدارة الأميركية تتحدث عن إمكانية توجيه ضربة عسكرية لقواعد الجيش السوري وعقد الرئيس الأميركي اجتماعات مع مستشاريه الأمنيين لبحث هذه الإمكانية، ولوّح بهذه الورقة.
على وقع التهويل الأميركي بدأت روسيا باستثمار ما يمكن استثماره من اتصالات في محاولة لخرق العزلة الدولية التي واجهتها مع الإبادة التي نفذتها في مناطق حلب الشرقية، وعدم مراعاة المواقف الدولية من مسألة فكّ الحصار وعدم ضرب المنشآت الصحية والمدنية، والسماح بإدخال المؤن للمحاصرين في المدينة.
انعقد مؤتمر لوزان استجابة للمساعي الروسية، ومنذ أن تمّت الدعوة إليه كان العنوان التباحث في الأزمة السورية، لكن أحدا لم يتوقع من هذا المؤتمر أن يحمل نتائج تصل إلى حدّ الحديث عن بلورة حلول للأزمة السورية، وهو ما طرح السؤال عن الهدف من وراء الدعوة إلى هذا المؤتمر، والغاية من المشاركة فيه من قبل الدول الإقليمية سيما المتعاطفة مع المعارضة السورية؟
أظهرت التطورات الميدانية والسياسية في الأشهر الماضية، ومنذ أن بدأت روسيا حملتها العسكرية في سوريا قبل أكثر من عام، أنّ حلفاء النظام السوري ولا سيما الميليشيات الإيرانية وروسيا تحققان تقدما عسكريا مهمّاً في الميدان السوري، وصل أخيرا إلى حدّ محاصرة مناطق في حلب، وتمّت السيطرة شبه الكاملة على مناطق سوريا المفيدة. وما كان ذلك ليتمّ لحلفاء الرئيس السوري بشار الأسد، لولا الموقف الأميركي، الذي بدا مهتمّا بأنّ تدخل روسيا كطرف ضامن للنظام السوري، تمهيدا لتسوية متوازنة على قاعدة اتفاق جنيف، غير أنّ روسيا التي نجحت في تحقيق تقدّم عسكري، وقعت في إغراء تثبيت وقائع سياسية تزيد من تهميش المعارضة وتعزيز موقع النظام، ودائما كان الهدف فرض هذه الطموحات على الإدارة الاميركية، وقد شكّل اتفاق الهدنة في حلب بين موسكو وواشنطن، المعلم الأبرز لمحاولات روسيا فرض شروطها حتى على باراك أوباما.
يعلم الجميع أنّ اتفاق الهدنة الذي جرى توقيعه في 10 سبتمبر الماضي، رفضت الإدارة الأميركية الالتزام به لا سيما في النقطة المتصلة بضرب مواقع المعارضة السورية الموصوفة بالإرهاب داخل حلب، والرفض الأميركي كان نتاج تباين بين إدارة أوباما ووزارة الدفاع الأميركية التي وجهت ضربة لقواعد الجيش السوري في إشارة إلى أنّ واشنطن لا يمكن أن تسمح بإعطاء الضوء الأخضر للطائرات الروسية لضرب تنظيمات المعارضة، فيما طائرات الأسد مستمرة في توجيه الضربات ضد المعارضة من دون توقف.
يمكن القول إنّ الإدارة الأميركية، ولا سيما الرئيس أوباما، لعبت دورا لاجماً لقوى المعارضة وساهمت في توفير الشروط العسكرية لتقدم النظام وحلفائه، وهذا مستند إلى وقائع ميدانية تجعل من الكلام عن تدخل أميركي عسكري مباشر ضد النظام السوري أمرا غير وارد رغم تلويح واشنطن في الأيام الأخيرة بهذا الخيار. أوباما قال بصريح العبارة إنّه لن يتورط عسكريا في الحرب السورية، ومنذ استخدام النظام للسلاح الكيماوي قبل ثلاث سنوات، بدت واشنطن غير راغبة في التورط العسكري، والموقف المشجع للتدخل الروسي من قبل الإدارة الأميركية، عبّر عن هذه السياسة الأميركية، لكنّ الأهم من كل ذلك يبقى أنّ واشنطن وهي تدعم سياسيا التدخل الروسي، تمنع فعليا تزويد المعارضة بأيّ سلاح نوعي يحدّ من القدرة التدميرية للطائرات الروسية والسورية، بل وقفت ضد فكرة قيام منطقة حظر جوي في شمال سوريا ولو تحت بند مواجهة الجرائم الإنسانية ضد المدنيين، أو لحماية مناطق اللجوء السوري داخل سوريا.
ما تريده واشنطن اليوم ليس إسقاط نظام الأسد ولا توفير الدعم الفعلي لقوى المعارضة، لكن تريد أن تستعيد الدور الذي قامت به خلال السنوات الماضية، وبدا لها أنّ روسيا تريد لها أن تلتزم بما تفرضه حسابات موسكو. الانتفاضة الأميركية لا تتجاوز مسألة استعادة هيبة سياسية في المشهد السوري، وأرادت أن تظهر لروسيا أنّها قادرة على فرض وقائع جديدة ليس عبر التدخل العسكري بل بالانسحاب من التشاور الثنائي، فواشنطن تعلم أنّ الدور الأميركي في روسيا كان عاملا مساعدا لروسيا. لذا روسيا لا تتخوف من ضربة عسكرية أميركية في سوريا، واستبعدت ذلك أصلا، لكنّها قلقة من تمنّع الإدارة الأميركية أن تكون شريكا بشروط روسية في حلّ الأزمة السورية. القلق الروسي ينطلق من إدراك موسكو أنّ واشنطن تستطيع أن تتحمل إدارة الأزمة السورية لسنوات، فيما موسكو ليست قادرة على الذهاب في الخيار العسكري إلى النهاية، وتدرك أنّ شروط الحل السياسي ليست متوفرة ما دام نظام الأسد هو الذي يحتفي بانتصارات روسيا العسكرية. الورقة الأميركية المقلقة لروسيا تكمن في فتح قنوات تسليح المعارضة السورية بصواريخ تعطل التفوق العسكري الروسي المستند على القوة الجوية، وفي حال سمحت واشنطن لأصدقاء المعارضة بتزويدها بمثل هذا السلاح، فسيعني ذلك أنّ روسيا دخلت في فصل جديد من الاستنزاف من دون أفق سياسي.
لذا تحاول روسيا اليوم تنشيط علاقاتها مع قطر والسعودية فضلا عن تركيا، وتحاول بطريقة ما تقديم ما يمكن من أوراق إلى هذه الدول في محاولة لإعادة إحياء دور يتيح نوعا من الحماية المعنوية العربية والتركية للدور الروسي في سوريا، لكن ذلك كله في سبيل توفير الفرص لترتيب العلاقة مع الإدارة الأميركية بشأن سوريا. فالتدخل الروسي بات أمام خيارين؛ إمّا الاستمرار في المواجهة العسكرية التدميرية ضد فصائل المعارضة وتحقيق انتصار عسكري لن يوفر لروسيا ولحلفائها القدرة على تتويج هذا الإنجاز بانتصار سياسي بسبب عجز نظام الأسد عن إعادة حكم سوريا، وإما الذهاب نحو شراكة مع الإدارة الأميركية لكن مع تسليم واشنطن بالشروط الروسية وهو ما ترفضه أميركا لأسباب عدّة منها، أنّ أولوية الإدارة الأميركية اليوم هي محاولة الانتقال السلس إلى الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتخاب الرئيس مطلع الشهر المقبل.
وإلى هذه الأخيرة تبدو ورقة الأفغنة إحدى الأوراق التي تهدد روسيا في سوريا، وإزاء هذا التوازن الذي يستنزف روسيا وإيران في سوريا لا تبدو الإدارة الأميركية مستعجلة لإيجاد حل، بل هي مستمرة في دعم خيار الحرب شبه الساخنة بديلا من الحرب الساخنة والباردة في سوريا. مؤتمر لوزان هذه وظيفته منع انفراط عقد السيطرة على مجريات الحرب في سوريا.
صحيفة العرب