أبو نواس عرف بشاعر الخمرة نسبة لتعطشه الدائم لها ، والذي أظهره في شعره، بالاضافة الى ما أبداه من حب غريب لها؛ و قد يرى البعض أنه ضاهى حبه للنساء. تتداخل هنا الأسباب التي يعقل أن تكون ولدت هذا الحب و ضاعفت توهجه في ذات أبي نواس. فهل سئم النّؤاسي من فكرة عذاب الحب المتوارثة عبر الازمان و قرر السّمو بمذهب حب لا ينضب، وخصّ به نفسه على حدٍّ سواء؟ و هل في هذا إشباع لذاته النرجسية التي تفضل دائماً احتلال مرتبة الريادة و الإتيان بما لم يخطر على بال قطّ؟ أو أن مغزاه من كل الموضوع كان ايجاد فكرة او حالة دائمة و غير مشروطة تخوّله كتابة الشعر؟
اشتهر شعر الأطلال الجاهلي بأنه عذاب و بكاء و يأس، و هذا ما جسّدته القصائد الطّلليّة التي استهلّت بالبكاء على الاطلال و بالمفردات و الصور التي تصف حالة الشاعر الكئيبة بعد خسارته محبوبته. أبو نواس عاش في عصر منفتح على العديد من الحضارات، فيه ترف و مجالس لهو، و لا بدّ من أن هذا عامل حثه على رفض البؤس، و ما يعززه. و ما قد يكون أكثر فعالية من الخمر في إبقاء أبي نواس مفعم بالسعادة و راحة البال؟ و قد عبر عن ذلك في عدد من ابياته، مثلا:" الى مدام تديم اللهو متقدا"، و هنا يعزّز قيمة الخمر و دوره في إفراح محتسيه؛ و " صفراء لا تنزل الاحزان ساحتها" و الصّفراء هي الخمرة التي، برأيه، يتلاشى الحزن في محيطها. هي حتما تديم اللهو متقدا ، فأبو نواس قادر على إسقاط شخصيات متعددة عليها؛ اي بإمكانه تخيلها بما تشتهي نفسه، والخمرة لن تقدر على معارضته، و لن تخالف إرادته إذا قرر تغيير شخصيتها الوهمية. بهذا الشكل يستمر السكر، او الحب، بنشر الفرح في محيط الشاعر، و لا تلمّ به هموم الحب و الأسى كمن سبقه من الشعراء؛ "إن مسّها حجر مسّته سرّاء"، فإذا كانت الخمرة قادرة على نشر السّرور في الحجر،لن يتعذّر عليها نشره في محيط الشّاعر و ندمائه.
سيطرت الخمرة على جوارح أبي نواس دون منازع، فقال فيها ما لم يسبقه أحد إليه، و كان يمجّدها و يرقّيها، حتى باتت جزءا منه، واصبحت تعرف به كما عرف بها. و بالرغم من أنّه أجاد الغزل و كانت له قصائد مميزة في النساء و الغلمان، إنّما "درّة" كانت دوما تحتلّ المركز الأوّل، فتنسب لها الصفات الأسمى :"رقّت عن الماء حتى ما يلائمها". كماوصفها والجارية في البيت ذاته،فبدت الجارية خادمة للخمرة " من كف جارية ممشوقة القد".
والجدير بالذّكر أنّه كان يعتبرها هي الحقيقة و عين الصواب، فراح يشبهها بالشمس و النور الذي يجلي ظلام الليل،" فأقبلت كضياء الشمس بازغة؛ على ضوء ذلك راح يتهكّم بكل ما دونها.
استخفّ أبو نواس بالطّلل الجاهلي في قصائده، هذا الطّلل الذي اعتبره بعض المحدثين و النقّاد تقليد أدبي يساعد الشاعر على بداية قصيدته بشكل مؤثر، حتى لو لم يكن متأثرا. و لكن شاعرنا قال:" لتلك أبكي و لا أبكي لمنزلة كانت تحل بها هند و أسماء" و كأنه يقوم بالأمر عينه، و لنفس السبب، متخذا طللا مختلفا؛ حبيبة مختلفة تفوق سواها في إطلاق العنان لمخيلة عاشقها، فيأتي بأبدع المعاني و العبر. في هذا المساق يظهر الشاعر أسيرا لشعره، مستعدّا لاختلاق أيّ طريقة تعينه في بناء قصيدته.
هذا و قد ظهر تعلقه بكتابة قصائد فريدة من نوعها تمّيزه عن سائر الشعراء من خلال تجسيده لشعوره و لمجلس اللهو بالتفصيل في شعره، و إن لم يكن كذلك لكان قد اكتفى بمعاقرة الخمرة و التباهي على رفاقه بفرحه المستمر. بناء على ذلك ممكن أن نرى أنّ هذه المحبوبة الصهباء لم تكن غاية، بل وسيلة لابتكار النؤاسي لمسرحة حب غريبة، فكانت مصدر إلهامه. والإلهام أهم عنصر في حياة الشاعر، لأن كتابة الشّعر هي محور حياته و كل ما سواها يعد تفصيلا. الإحساس المرهف لدى الشاعر يجعله بحاجة دائمة لأن يكون متعلّقا بشخص يوظف كلامه الشجي في مناجاته ووصف شعوره نحوه، و يمهّد لقضايا شتى عن طريقه؛ هذا ما يجعل منه إنسانا أنانيا، يستغلّ الشّخص أو الشّيئ لفترة وجيزة، الى أن يرتوي من اللذة التي يوظفها في شعره. فروح الشاعر غير خاضعة لإرادته، و هي في سعي دائم للتجديد؛ كأنها تملّ بسرعة. و إن طبّقنا هذه القاعدة على أبي نواس ، ذاكرين أنّ له دواوين في الطرديات و المؤنثات و المذكرات، نرى أنّه اعتنى بحب الخمرة كفكرة أكثر منها كواقع، ولربما كان الخمر الأكثر مؤاتاة في كتاباته، لذا كانت الأولوية له دائما.
و مهما كانت الحال، فهناك شيئ لا شك فيه و هو هذه النفس النرجسية التي لا ترضى بما هو مستهلك، بل و تسعى كي لا يستهلك أحد ما ابتدعته. حب الخمرة بات هوسا عند النؤاسي لدرجة أنه شدّد على امتلاكه لها:" لي نشوتان و للندمان واحدة شيئ خصّصت به دونهم وحدي". كما أنه يفتخر و يعتدّ بها معتبرا أنّ الجميع بات يرغب بما أوتيه هو، و نلحظ في البيت : " كانت مخبأة في الدن قد عنست" إشارة الى أنه أوّل من وصل إليها و عشقها،و لعلّ في ذلك أيضا إشارة أو تلميح لمن يتعذب بسبب حبيبة رحلت عنه؛ كأنّه يثبت أن الخمرة هي الحق، فهي لا تسأم من انتظاره، حتى و إن كان محتملا ألا يأتي.
من المعقول أن يكون أبو نواس قد فضّل أن يتّخذ حبيبة في مخيلته تناسبه من كلّ النواحي، و يضفي عليها المشاعرالتي تولدها الخمرة فيه، فانجرفت كلماته لبناء قصائد فريدة من نوعها، و بهذا تكون قد اكتملت مسرحة الحب عنده. لقد قدّم أبو نواس في شعره عن الخمرة نوعا جديدا من الحبّ، و هو ذلك الحب الذي لا يتعلّق بامرأة أو بجسد، بل يتخطّى المحسوس و الواقع إلى عالم من الحقائق و الذي تعتبر الخمرة الباب الوحيد إليه.
بقلم : نائب رئيس تحرير شباب لبنان الجديد.