تحمل الدراما التاريخية أشكالاً عدّة. من أبرزها "الفانتازيا" التي تختار زمناً لأحداث افتراضية غير مرتبطة بالتاريخ توثيقياً في شكل مباشر، أو تتجه في نوع ثان إلى الحدث التاريخي لمعالجته درامياً. وفي النموذج الثالث تتكئ إلى فضاء زمني محدد، وبالتالي فيه حقائق ثابتة، لخلق قصة درامية تجري خلاله، كما هي حال مسلسل "أمير الليل" الذي تدور أحداثه منذ العام 1939، وتمتد لستين حلقة في السنين الأخيرة للانتداب الفرنسي، في شكل رئيس حول سليل عائلة إقطاعية "الأمير عمر" (رامي عيّاش) والطبقة الارستقراطية من حوله، ونمط عيشه كـ"معشوق النساء"، و"المناضل الأول في وجه الاحتلال"، ورب عائلة تعاني من مرض الزوجة "ناديا" المزمن، قبل وفاتها وتركها الابنة "ريم" يتيمة بلا أم.
يصيب نص وحوار الكاتبة منى طايع تاريخياً بمقدار ما يخطئ. مثلاً في الحلقة الأولى يسأل "روبير" (طوني مهنا) "الأمير عمر" خلال تحضره لاستقبال الجنرال غبريال بيو في المطار: "كم مفوض سامي صرت مستقبل من عشر سنين لهلق؟" في إشارة إلى كثرتهم وفق مضمون المشهد، بينما هذه الفترة لم تشـهد دخول إلا الكونت داميان دو مارتيل في عام 1933، سبقه أوغست هنري بونصو في عام 1926. في المشهد ذاته، يقول "الأمير عمر" عن المطار "بعد بدو كم شهر ليخلص"، في حين افتتح المطار رسمياً عام 1938 في منطقة بئر حسن. وفي الحلقة الحادية عشرة تُعزف ألحان أغنية "أنا في انتظارك" (محمود بيـرم التونسي وزكريا أحمد) للسيدة أم كلثوم، علماً أنها لم تصدر حتى عام 1943. على صعيد آخر، يركّز العمل حتى الآن على ترداد أسماء معينة من رجالات السياسة في حينه حاصراً السعي إلى الاستقلال بها، وإغفال أسماء كان دورها أكثر بروزاً وفاعلية.
وتقع شخصيات العمل في تناقضات درامية لافتة غير منطقية. يمد المفوّض الفرنسي يده للسلام على "الأمير عمر" الذي كان رافضاً الذهاب إليه، فيمسك الأخير يده لوقت طويل نسبياً في "موقف بطولي"، قبل أن يسلم متردداً بتوافق مع شخصية "المناضل"، ولكن على النقيض من ذلك يريد تسليم الجيش الفرنسي "المحتل" شحنة من الأغطية القطنية في صفقة تجارية بحكم عمله كتاجر أقمشة. وفي مشهد آخر يعترف "فارس بك" (بيتر سمعان) أمام المفوض بأنه "وصولي" بالتعبير الفرنسي "Arriviste"، قبل أن يشعر بالإهانة في مشهد لاحق أمام المفوض عينه من تعامله معه كانتهازي مستخدماً اللفظ الفرنسي نفسه. "الأمير عمر" مستعد للزواج من شقيقة زوجته الميتة مضحياً من أجل ابنته التي يحبها كثيراً، والتي يغيب عنها ثلاثة أيام متتالية بلا سبب قاهر. وذلك إلى جانب فلتات كاستعمال لفظ "الأمير" بدلاً من "المير" السائد عامياً حتى اللحظة، والإفراط المبالغ به في استخدام اللغة الفرنسية في أوساط الطبقة المخملية.
ومن الناحية السينوغرافية، يضطر المخرج ايلي برباري إلى استخدام الكوادر الضيقة، والتقتير في المشاهد الخارجية، بحكم عدم وجود استوديوات لهذا النوع من الأعمال، من دون غض النظر عن المساعي الإنتاجية العالية للشركتين المنتجتين "طايع انتربرايز" و"أم أند أم" في توفير مواقع تصوير ملائمة وأدوات المشهدية مثل السيارات القديمة والملابس التقليدية. ولكن منزل "الأمير" يخلو من كل أداة في الديكور (كالسيوف مثلاً) تشير إلى عراقة نسبه وأصوله العربية الممتدة في التاريخ، كما هي حال كل العائلات اللبنانية التي حملت هذا اللقب.
وأما جهة الحبكة الدرامية وأداء الممثلين، فتسير الأولى متماسكة بحلقات يتفاوت فيها التشويق وتصاعد الأحداث المركزّة حتى الساعة في أشكال متعددة من العلاقة بين الرجل والمرأة، في مشاهد وحوارات تتكرر بين "فارس بك" والمغنية المصرية "ناريمان" (ميس حمدان) و"الأمير عمر" والأرملة "سارة" (بياريت القطريب) والزوجة الخائنة "توتو" (ليلى بن خليفة)، مع توطئة الحبكة أرضية خصبة لتصاعد أكثر حدة في الحلقات المقبلة.
ويكسر حدّة الرتابة الجارية أداء عالي المستوى لرامي عيّاش كممثل محترف، إذ يحافظ بالدرجة الأولى على أدوات الشخصية في ردود الفعل الجسدية والصوتية، وثبات تقنية الجدية في ملامح الوجه والنظرة العميقة بعينيه التي اختارها في شكل ملائم للدور. تظهر قدرة عيّاش جلياً حين يجمع الابتسامة بالغصّة أمام زوجته خلال منازعتها الموت. حتى الآن يظهر "المير" مظلوماً بشريكته في البطولة داليدا خليل بدور "فرح" التي يظهر أداؤها صعوداً وهبوطاً.
مشهد نزف شقيقتها "ناديا" تحوّل إلى سخرية على شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب ردود فعلها الساذجة وجمود تعابير الوجه.
ويظهر بيتر سمعان في أدائه الأقوى على الإطلاق في مسيرته التمثيلية، مستخدماً تعابير الوجه والعينين كأداة أساسية نجح في تطويعها كنظيرته الأردنية ميس حمدان، كما تضيف هيام أبو شديد بدور والدة "ناديا" نكهة كوميدية لشخصية سطحية محتالة. وإزاء نجاح بياريت القطريب باقتدار في دور الأرملة العاشقة والأم، تقدم نظيرتها التونسية ليلى بن خليفة أداء جميلاً وخاصاً أكثر حركة. أما أداء أسعد رشدان فالأكثر احترافاً في "أمير الليل"، ما يؤكد حاجة الدراما المحلية إليه.
(الحياة)