عادت من مجلس أبا عبد الله باكية، عيناها المتعبتان ترغمانني على التقرّب من تلك الحادثة التي لطالما تجنّبت ذكراها أمامها، أرفض مشاركتها ألمها وهي أمامي واقفة تنتظر مني الدموع نفسها التي بكت فيها الحسين، دموعاً بكت فيها بحرقةٍ من يُتّم من الضنى. ملّت الصبر من طول الفراق، أراها تستأذن وحدتها فتأتيني بالحب بعد كل عزاءٍ حسيني، تغمرني وتعبّر عن اشتياقها له وتدعوني للحديث عن طفولتي، فأنّبتني لصمتي الدائم. تبرّر وفي غضبها شوق لولديها، لم يبقَ من تلك الصور القديمة ما يعزّيها، رمتهم بعيداً عن عيونها وتوكّلت على الرحمن.
في شهر محرّم ما يواسيها، في شهر محرّم تلتقي بقلب الأم الحاني.. فأجملهنّ من ندبت على الصدر ولدها. عاشوراء تحميها من اللهو في أفراح الدنيا. هي أمي "زينب" تلطم فقيدها من دون خجل، لها من الحياة اسمها، تلك الصفة التي لازمتها "زينب أم المصائب" فعدائي لم يكن يوماً للاسم "زينب" بل، لمصير أمي- مصير فاطمة (ع) ومصير آل بيتها. مصير علي الأكبر وأمّه ليلى.
لنتكلّم عن حزن زينب في سوادها ونصف جماله. تخلّيتُ عن التزامهم أو صافحتُهم ليس بالمهم، هي كربلاء شئتُ الانتماء اليها في أيامها. لي من العباس "أخي"، لنا من عاشوراء قصة نحييها ولنا من عاشوراء ما يجمعنا بمن فارقونا. نشرّع أرواحنا لنحمل أمانة الحُرْ على مشاعره الملطّخة بالموت. نتساوى في الشهادة وفي خدمة تلك المرأة-زينب (ع)، من ابتلعت نيران أعدائها خيم أطفالها. تستشيرني في تصاميمها، تسألني بحذر لأن في صمتي رفضٌ للحداد ولكنها تصرّ على موافقتي. خصّصت لعاشوراء وقتاً تخيط فساتينها السوداء، تتحوّل لسيّدة أنيقة معجبة بما تصنعه يداها. بهدوئها الذي عايشته وحياء صوتها ولون وجهها الشاحب وكلماتها المختارة والمهذبة تقول لي بأن لها من موت أخي أجرٌ "اذا أحبّ عبدا ابتلاه" وعليها أن تنتظر، فهي ستلتقيه لاحقاً. عليها بالصلاة والانتظار وهي حتماً ستلتقيه.
ماتت فاطمة (ع) في خلوتها حزناً على النبي. الزهراء وهو لقبها، وكما وصّفت بأم أبيها لعطفها على النبي ورعايتها له. عليها السلام بكت أبيها حتى فارقت الحياة في"بيت الأحزان" الذي أنشأه لها زوجها الامام علي بعيداً عن الأعداء. كربلاء يعني الحسين إبن الزهراء بنت النبي. كربلاء يعني وجع الروح، كربلاء يعني عرس بين الصفوف والعروس-"الزهراء" بعينها تشوف، كربلاء يعني وفاء يعني راية يعني غيرة يعني وجود. كربلاء يعني فاطمة الزهراء تصرخ "حسين مات".
"ما كنت لحظة أعوفنّك
وإنت يالغالي تنوّر بيتك
أنا ربيتك وتعبت يابني
وبصغرك كنت تحبني
واقفة قبالك بدمعي حاكيتك
يابني ارحم حالي
قوم نشّف دموعي
يابني للجنة بايدي زفّيتك
انكسر ظهري يابني
يابني أنا ردتك وما ردت الدنيا
أنا الوالدة والقلب لهفان
على صدري جنازتك
يا ربي خابت ظنوني
أنا كانت منيتي تحضر عزاي
يابني أنا أريدك الك يا حبيبي"
عادت أمي من مجلس أبا عبد الله باسمة، لطالما خانتها ذاكرتها ولكنها أمامي تكرّر ما رواه القارىء، تعيد الجمل أعلاه ببطىء وتبكي. تقول لي: حفظتن! كأنها في هذه اللحظة تخلّت عن مواساتي التي لطالما طالبتني بها، توجّه لي العتب بتلك الجمل وتهديني منها واحدة أنا من تبقّى لها: يا عطر زهرة حياتي ويا نسيم اللي يمر. وتقبّلني. في شهر محرّم تروّض ذاكرتها لتنوح أخي مطمئنة ووحيدة مع آل بيت الحسين. هذه الأم عاشقة لولدها، فما تتلفّظ به عنه يجعلنا نتورّط في العشق نفسه. نعم يمكننا أن نحب هذا الصبي حتى البكاء. نصّها الطويل عنه يجعلنا نحبّه حتى البكاء. لو علمت أمي بأن عاشوراء هذه السنة كانت مختلفة، لو أنّني أكثرت من الشرح وتخلّيت عن عدم مبالاتي التي أدّعيها، لو بشّرتها بأنني مثلها انتظرت مجلس أبا الفضل العباس لأريح نفسي وأغفر لأخي رحيله. لو دلّلتها في عاشوراء وناديتها باسمها "زينب" لكانت هي الأخرى غفرت لي صمتي كل هذه السنين.
عندما سأل ابن زياد زينب (ع)، كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيته؟ جاء ردّها: "ما رأيت الا جميلا". نعم، جميلٌ هو موت أخي وجميلةٌ هي أمي بفستانها الأسود تلطم الرأس حزناً على أخي. جميلٌ هذا الحزن ورثناه عن زينب، وتميّزنا في إحيائه. جميلةٌ عزلتي في حب أخي وجميلٌ بكائي عليه سرّا عن أمّي.
حائرة سليم