بخلاف التحليلات السائدة، أنهى قبول الرئيس سعد الحريري مبدأ انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، والذي كان قبل أسابيع قليلة من سابع المستحيلات، المناورات التي طبعت مواقف الأطراف منذ نهاية بداية الشغور في موقع رئاسة الجمهورية قبل أكثر من سنتين وأربعة أشهر، ووضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتهم التاريخية.

وما تحديد رئيس مجلس النواب نبيه بري موعدًا متأخرًا نسبيًا لجلسة الانتخاب حاملة الرقم 46، إلا انعكاسًا لجديّة التعقيدات التي لا تزال تحول دون إجراء الانتخابات الرئاسية، بعدما ذاب ثلج الوعود والمواقف والعواطف المعلنة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، وبان مرج الحقائق الموضوعية التي تتحكّم بخيارات الأطراف السياسية اللبنانية. فالأطراف اللبنانية، باستثناء العماد ميشال عون الذي يعلن صراحة أنه يريد رئاسة الجمهورية مهما كان الثمن، كانت تعلن غير ما تُضمر. لقد أتى أوان الحقيقة.

تسارعت الأحداث والمواقف وارتفع التشويق إلى الذروة، وبخاصة بعد الكلام الحاسم للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الأحد وسؤاله: "كيف يقبل مرشح للرئاسة ذو كرامة وإدراك أن يُعرّى من مسؤولياته بفرض سلة غير دستورية؟" وإضافته: "يتكلّمون عن سلّة تفاهم، فهل هذه السلّة تحلّ محلّ الدستور؟ إن التقيّد بالدستور يغنينا عن أي سلّة". وقد اعتبرت مختلف الأوساط كلام البطريرك الراعي بمنزلة "حُرم كنسي" على السلّة ومحتوياتها، ودارت في هذه الأوساط حوارات حول مقاصد الرئيس بري الحقيقية من طريقة إدارة ملف الانتخابات الرئاسية، وما إذا كان فقط يريد عرقلة وصول العماد عون قصر بعبدا أم تغيير قواعد لعبة تشكيل السلطة التنفيذية في لبنان، وتكريس مواقع جديدة له ولما يمثّل، داخل التركيبة السياسية والإدارية والأمنية اللبنانية.

وقد سمعت أصداء حول مطالبته بتكريس وزارتي المالية والأشغال العامة للشيعة، وبالحصول على حقيبة الطاقة والمياه، وبالتعهّد بعدم إسناد وزارة أمنية لفريقَي عون والقوات اللبنانية. هذا بالإضافة إلى همس حول ضرورة إجراء مداورة في حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش وغيرهما من المواقع الأساسية في الدولة.

يقول بعض المتابعين إنه كان رهان الرئيس بري أن تفضي حال التعطيل والتحلّل الجارية إلى شكل من أشكال المؤتمر التأسيسي الذي أثاره مرة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. فمنذ تشكيل حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي في 28 نيسان 1984 التي ضمته في عدادها لأول مرة، والتي أكد رئيس حركة أمل نبيه بري بعد دقائق من إعلانها أن "صدور المراسيم الوزارية من دون أي استشارة للصف الوطني" يجعله "يرفض الاشتراك في الوزارة"، والرئيس بري يحرص على اختيار ممثليه وممثلي حزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي والسماح للرئيس المكلّف بالاشتراك مع رئيس الجمهورية فقط بإعلان تسميتهم في المرسوم الموقّع منهما. ومع توقيع العماد عون التفاهم مع حزب الله، أخذ الأول يبالغ في تأكيد حقه باختيار ممثليه من خلال إعلان أسمائهم من مقره في الرابية حتى قبل تسليمها إلى الرئيس المكلّف.

في هذا السياق، يؤكد المطّلعون أن المفاوضات لتذليل العقبات أمام انتخاب عون تدور حول هذه النقطة بالتحديد، وإن بمسميات مختلفة على غرار "السلّة الكاملة"، وأن بري يعتبر أنه لا يجوز لحزب الله إحباط المطالب التي ترفعها حركة أمل في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. فهذا الحزب الذي يخوض حربًا مصيرية في سوريا ويحاول جاهدًا تأليب المجموعات السياسية والطائفية اللبنانية حوله وإقناعها بضرورة تبني تحالفاته وعداواته، لا ميل له حاليًا إلى الخوض في قضايا شديدة التعقيد راهنًا، وخلق مواجهات داخلية جديدة مع أبرز حلفائه.

فحزب الله من جهة، شديد الانشغال بالتطوّرات الميدانية ولا وقت عنده للمماحكات الداخلية التي تستنزف جهدًا ولا نتيجة عملية ملموسة لها في المدى المنظور. ومن جهة ثانية سيكون أسهل على الحزب الخوض فيها بعد إنهاء الأحداث في سوريا خصوصًا إذا أفضت إلى انتصار للمعسكر الذي يقاتل في صفوفه.

غير أن حزب الله الذي يقرّ للرئيس نبيه بري بالدور الأول في القضايا ذات البُعدي اللبناني ليس على استعداد لمواجهته خصوصًا عندما يرفع عناوين مرتبطة بمستقبل الطائفة الشيعية وتحصين دورها وتعزيز قدرة أقطابها على التأثير في اتجاهات الحياة السياسية اللبنانية مستقبلًا. ولهذا يحاول الحزب أن يصم آذانه وأن يستمر في لعب الدور الذي يلعبه منذ إقدام الرئيس سعد الحريري على ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية أي دور "هذا عين وهذا عين ولكننا ندعم العماد ميشال عون".

بيد أن العماد عون الذي تجاوز العديد من المحظورات وضحّى بالكثير من الثوابت والمقومات الوطنية والسيادية وبالمصالح الاستراتيجية لمستقبل لبنان ودور المسيحيين فيه، في سبيل الوصول إلى رئاسة الجمهورية منذ العام 1988، لم يعد، على ما تؤكد المصادر، يطيق سماع مثل هذا الكلام من جانب حزب الله.

               

أنطوان سعد

المصدر : مون ليبان