قدمت صديقي الوجيه البحريني إلى صديقي المسؤول الإيراني، فالتفت الثاني إلى الأول قائلاً بلهجة يختلط فيها التعجب بالاستنكار: متى تكفون في البحرين عن إنتاج المبالغات والخرافات وإلصاقها بالتشيع وأهل البيت خصوصاً في عاشوراء؟ فارتبك ضيفي البحريني، وسارعت بتولي الإجابة نيابة عنه: فقلت: أنا أعلم ان المصنع عندكم بعدما نقلتم كل المصانع إلى بلادكم، وأصبحنا خارج المركز الإيراني مستهلكين أو معيدي توضيب للمنتج الإيراني لإعادة تصديره. والمسألة التي تعترض عليها ليست منحصرة في البحرين. وها أنا قادم من قريتي في الجنوب، ومقيم على باب ضاحية بيروت حيث أرى الكثير مما تعترض عليه، وأسمع تعليقاً إضافياً من أكثر الناس، على هذا البذخ المتعاظم سنة بعد سنة، على مظاهر عاشوراء، إضافة إلى بذخ رجال الدين والقوى والمؤسسات الدينية، مترافقاً مع ازدياد عدد الفقراء والمساكين واشتداد الفقر في كل مكان!
وتابعت قائلاً: إني أقدم لك شهادتي لإيران في ما يعود إلى انتباهها الشديد، حكومة وشعباً إلى ضرورة الاتزان (الداخلي) في التعاطي مع كل المناسبات الدينية، ما يعني انها تمارس سياسة مزدوجة في الثقافة، بين المركز الذي تقدم له منتوجات صحية، والأطراف التي يتم تعويدها على منتوجات لا تراعى فيها تماماً الشروط الصحية في الفكر والسلوك الديني.
وقد سمعت قبل عقود من الزمان، من خبير في الإنتاج الحيواني، زار معامل فرنسا للأجبان، زيارة عملية، وعاد ليوصينا بوجوب تجنب كثير من أنواع الجبنة الفرنسية المشهورة، مشدداً أكثر على نوع معين يلقى رواجاً فوق العادة في بلادنا ومنذ عقود، لأنه ـ كما قال ـ الأشد قذارة وافتقاراً إلى الشروط الصحية... وقال إنه لا يعرف أحداً من الفرنسيين يتناول هذا النوع، بل يُقبل على أنواع اخرى رخيصة، ان كان فقيراً، لأنه يعرف نظافتها كما عرّفتها له وزارة الصحة أو التموين، فإن كان غنياً فضل أنواعاً اخرى، أهمها وأشهرها ذلك النوع المتعفن وذو الرائحة المنفرة، لأنه الأفضل بإجماع الفرنسيين وجميع من يتكلمون الفرنسية.
وانتهينا مع هذا الخبير إلى معادلة لا بد من اكتشافها وكشفها، في مجالات السياسة والثقافة والدين والفنون والملابس وغيرها. وهي ان المبالغة في تجميل ظاهر الأمور قد يكون بسبب فظاعة أو بشاعة أو خطورة مضمونها، وأن إهمال المظاهر أو تخفيفها، قد يدل على سلامة المضمون.
قال الصديق الإيراني: ماذا تريد؟ قلت: من تجربتي القريبة جداً والتفصيلية، اشهد أن السلوك الإيراني، الشعبي والنخبوي، في عاشوراء، هو أقرب إلى العقلانية وروح الدين وذوق أهل البيت (ع)، وإن كان الأمر لا يخلو من استثناءات، أعرف أن القيادات الرسمية والدينية، لا تقصر في الحد منها بالحسنى، وبالمنع الشديد إذا اقتضى الأمر، وقد عشت شخصياً بعض التجارب في طهران في هذا المجال.
ولعله من أهم ما في إحياء عاشوراء في إيران، هو انها لا تعطل ولا تعرقل شيئا أو أمراً من أمور الحياة والعمل، وإذا ما أطلت على الشارع، فقليلاً، وللحظة، ثم تغيب وكأنها لم تكن... ولا يتم أي عمل إلا تحت سقف القانون والنظام والذوق العام، ولا يقع أحباب الحسين (ع) في المخالفة لحسابه وحساب الشهداء! لأنهم مؤمنون بأن أي مخالفة لا تكون إلا على حساب الدين وأهله والحسين وأهل بيته وأصحابه.
ولكن هذا لا يعني ان إيران الرسمية، حكومياً ودينياً، ليست المصنع الأكبر والأعظم لكل الإضافات والمبالغات والمستهجنات إلى المظهر والسلوك الديني الشيعي في مناطق الوجود الشيعي خارج إيران.. ولذلك أسباب كثيرة، قد لا يدخل في قائمتها النضال الشيعي مع السنة، إلا كنتيجة أحياناً، متأثراً بالأوضاع الخاصة في كل بلد.. إذ أن المطلوب والمقصود هو تكوين العصبية المذهبية كضرورة استمرارية وتمكين في السلطة، خاصة عندما تقصر في الوفاء بوعودها التنموية في أيام الثورة قبل الدولة.. وقد يمر هذا الغرض بإشكاليات التنافر مع الآخر الإثني أو الديني أو المذهبي، لأن العصبية القوية المفرطة لا تتم إلا بالمزيد من التمايز عن الآخر... وإن كان قريباً. ويمتد هذا التمايز ـ من أجل السياسة ـ من المعتقد والفتوى والمظهر، طول اللحية سلفياً مع قصر الثوب... وتعميم السواد شيعياً أخيراً مع نظرة شزر إلى من لا يتساود من غير نية سوء أو خروج من فضاء الحزن العظيم في عاشوراء.
في حين ان الآخر، من المسيحيين.. أو أهل مذهب إسلامي آخر، لا يكون أقل انشغالاً وإلحاحاً، على استحضار وتوليد الثقافة المفرّقة عن الغير، من غيرهم، وبأساليب ومناسبات مختلفة، تتذرع أحياناً بأساليب الآخرين من طقوسهم وإحياء مناسباتهم، في المركز أو في الأطراف، وإن كانت الأطراف أحياناً أشد اندفاعاً أو التزاماً بالمظاهر واستزادة منها، من المركز، كما شهدنا في تاريخ الأطراف الشيوعية واجتهادها في سبق المركز (الروسي) في تضخيم الوعي الفئوي.
وفي كل حال فإن لا أحد بإمكانه، أو من حقه، إلا في حدود ما يلحق به من ضرر مسلّم به من دون مبالغة، أن يعترض على إحياء عاشوراء وإظهار الحزن الجميل والشديد والعميق، وسكب الدموع الطاهرة المطهرة، من دون دم مجاني ومن دون لطم يتجاوز حدود اللطف والبطء والهدوء والعذوبة والجاذبية والإغراء بالمشاركة.. والذي يتوالى ويتهادى وكأنه موقع على نبضات القلب المحزون.. وبالأيدي النظيفة المغسولة بماء الوضوء أو تراب التيمم، على الصدور العامرة بالإيمان والحب، والتي لا يزيدها تذكار الحسين إلا حباً وشفافية وشوقاً على الآخر الشريك في الإيمان والوطن والمصير والوجع والحلم. والذي يأتي إلى عاشوراء من خارج سياقنا السجالي والانقسامي والكيدي الراهن والجاثم على صدورنا، تجذبه وتأخذه إلى المعاني الكبرى التي تدفعنا إلى فضاء أهل البيت وتتعاظم في هذا الفضاء فتعم وتجمع.. وتمتد يد المسيحي إلى صدره نادباً عندما يرى في طقس عاشوراء مثالاً لرتبة دفن المسيح.
والذي عاش وتذكر كيف كانت عاشوراء تحيا في أماكن الصفاء المذهبي، أو في أماكن الاختلاط والتثاقف والتعارف والتكامل المذهبي أو الديني، يلاحظ أن هناك تصاعداً أو تصعيداً في خط ترجيح وتغليب الخصوصية المذهبية على العمومية الوطنية التوحيدية أو الإسلامية، أو الإنسانية، يقابلها في الأمكنة الاخرى سلوك ثقافي يظهر عليه وكأنه ينتظرها ليبرر نفسه بها.. ما يعني اننا قد نصل متحدين ومتفرقين، إلى وضعها (عاشوراء) في الوجهة التي تعاكس خط سيرها التاريخي.. إذا ما استكملنا المسعى الشيعي الاستئثاري بها، والرد التنصلي السني منها.
ولو أننا سألنا الحسين (ع) لماذا خرج واستشهد لأجاب كما قال: «لطلب الإصلاح في أمة جدي» لا للإصلاح بين المسلمين، بل فيهم، لأنهم لم يكونوا وقتها منقسمين إلى سنة وشيعة، على حكام جائرين ومحكومين مظلومين... هذا، ولا بد من الانتباه إلى اننا الآن نعيش تحديات تختلف جذرياً عن التحديات التي عاشها الحسين (ع) والمسلمون مع حكم يزيد.. تختلف وإن تقاطعت في الخوف من الاستبداد والجور والفقر والجوع والمرض وغياب الحرية والعدالة.. كل هذا يعني اننا لسنا الحسين ولا الآخر يزيد.. وإن كان هناك من مستبد فهو مستبد آخر، قد يكون أخطر.. ولكنه ليس يزيد، وليس أموياً ولا عباسياً ولا.. ولا حتى هو الفرنسي القديم.. وهو الصهيوني القديم والجديد...
إذن.. فنصاب العداوة اختلف وأصبح أشد تعقيداً وإشكالية وأكثر حركة وتغييراً.. مع بغاء الثابت الصهيوني حتى تحرير فلسطين.. وعليه فلا بد ان تختلف أساليب التعامل معه، وأول شروط هذا التغيير نحو الأصوب والأجدى هو جعل فلسطين مقياساً ومعياراً.. ومن دون وصاية لأحد على شعب فلسطين وقواه الفاعلة، مع التفريق بين ضرورات هذا الشعب تحت الاحتلال وخياراتنا خارج الاحتلال، والعمل على مطابقة هذه الخيارات مع تلك الضرورات على المدى البعيد.
أما الحزن على الحسين.. والذي يجعل الحسين أمراً قابلاً للعدوى الحميمة لدى جميع الناس المستعدين لأن يكونوا حسينيين، بشرط الحكمة والتروي والجدال بالتي هي أحسن.. والشغل عند الحسين لحساب القيم التي ضحى من أجلها، لا تشغيل الحسين في ورشة أحد.. حتى لو كانت ورشة حق، لأن تخصيص الحسين يلغي عموميته وإن مؤقتاً.. وهذا أمر كريه مكروه.. الحزن على الحسين مسألة.. قيمة ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها بالشراكة وتعميقها مضموناً لا شكلاً، يتحول بالمفاقمة إلى خطر على الحزن الذي نحرص عليه حرصنا على الفرح.. لأنه طريق آخر إلى الفرح عندما يجمع.
سمعت وسمع غيري ورأينا أناساً لم يقصروا في كره المقاومة.. وعندما حررت أعلنوا ولاءهم لها وأضمروا ثم صرحوا بأنهم يريدون ان يستمروا في انتهاك القانون والعدوان على مال الناس والمال العام وإدارات الدولة.. لأنهم قاوموا وانتصروا.
وسمعنا وقد نسمع أكثر.. نصابين وتجاراً ومروجي مخدرات يسخون على مجالس إحياء عاشوراء وعلى جمهورها بكل ما لذ وطاب، وقد يطالبوننا غداً بمناصرتهم لمنع ملاحقتهم (إن صار لنا دولة وقانون وقضاء يحكم بالعدل) لأنهم لبسوا سواداً وصرفوا مالاً على الحسين! وكأن الحسين يرضى بالمال الحرام! إذن فلماذا استشهد؟ ولماذا قاوم المقاومون واستشهدوا؟
ختاماً.. أنا من الجيل الذي تعلم في طفولته الرقة والحنان والانحياز إلى المظلومين من قراء التعزية البسطاء جداً في قرانا، حيث كانت التعزية طقساً جماعياً ودوداً.. يلعب النص فيه دوراً ثانوياً أحياناً.. ثم وعينا عاشوراء وثورة الحسين بالنص الأدبي الرفيع والعلمي العميق من كبار قراء التعزية في النجف (الوائلي وآغائي خاصة) ولكن فكرنا وثقافتنا العلمية، نحن وقراء التعزية.. كنا نستمدهما من علمائنا. حسناً أن يكون لدينا عدد كبير من قرّاء التعزية... ونحب أكثرهم ولا نكره الآخرين، ولكن طريقتهم لا تجتذبنا.. بل وتخيفنا أحياناً.. على أحفادنا. لا علينا.. ولا على أولادنا الذين علمناهم الحسين على طريقتنا.. ولكن هل يجوز ان تصبح التعزية هي ثقافتنا اليومية الشعبية الوحيدة.. ويغيب العلماء والمفكرون من أساتذتنا عن التداول.. ويجثم الحزن من الفجر إلى النجر! هذا ليس حزناً.. وأخشى أن يصبح بؤساً!!

العلامة السيد هاني فحص