في البدء كانت الحروب قتالاً بين جيشين تقليديين مدججين بالاسلحة يجري على مبعدة من المدنيين وأماكن سكنهم وتجمعهم، ويعكس حرصاً شديداً على تجنب إيذائهم او الاضرار بهم. كانت تلك هي مذاهب الحرب وأخلاقها العسكرية، التي تتفادى المس بالضعفاء والآمنين مهما احتدمت المعارك على جبهات القتال وميادينه البعيدة. وكان انتهاك تلك العقيدة بمثابة عار يلحق بالعسكريين ويمكن ان يحكم عليهم بالاعدام او السجن.
اليوم انحطت الحروب حتى صارت تخاض على المدنيين، وبالمدنيين، وباتت حسابات النصر او الهزيمة تقاس بعدد الاطفال والنساء والشيوخ، الذين يسقطون بنيران عسكريين يتفادون المواجهة المباشرة بينهم ، او يجبنون عن الدخول بها، ويفضلون التلويح بالجثث والاشلاء المدنية بدلا من التقدير لما تبقى من طائرات ودبابات وملالات وصواريخ ومدافع لدى العدو في ميادين المعارك.
ومع كل حرب راهنة، يبدأ عدد القتلى المدنيين بالارتفاع ويتقلص عدد القتلى العسكريين المختبئين خلف ترسانتهم الموجهة الى مدن العدو وقراه ومدارسه ومستشفياته ومصانعه..حتى صار الالتحاق بجيش ما، هو السبيل الافضل والاسلم للنجاة والخلاص، من ويلات القتال التقليدي الذي كان في ما مضى شرفاً ومنحة لا تعطى الا للاقوياء والشجعان الذين يحمون بلدانهم وشعوبهم، ويتفادون المس الا بمن كان مثلهم من القوة والشجاعة والالتزام العسكري.
في حربي سوريا واليمن، كما في غيرهما الكثير من الحروب المعاصرة في العالمين العربي والاسلامي، قدمت الجيوش المتحاربة نموذجا فظاً عن ذلك الانحطاط في مفاهيم الحرب وتقاليدها. كانت الحجة ان العدو لم يعد جيشاً تقليدياً ، صار تنظيماً إرهابياً يختار مقاتليه من المدنيين ويركز مواقعه بينهم فيحولهم الى دروع بشرية، قرابين حربية، يجري تعريضها عمداً لنيران الاسلحة التقليدية الأشد فتكاً.
ولعل الاسرائيليين كانوا وما زالوا رواد تلك الممارسة العسكرية الفريدة، التي قتلت من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب أضعاف أضعاف ما قتلت حتى الان من العسكريين النظاميين، وكانوا ايضا أول من أطلق صفة "الدروع البشرية"، على التجمعات السكانية التي كان جيشهم يستهدفها مباشرة ويرتكب فيها المذابح المتلاحقة التي باتت من علامات الصراع ودلائله وإرثه الطويل. مع العلم ان الغرب اعتمد ذلك التحول في خططه الحربية، وتجرد من الاحساس بالذنب عن سقوط الضحايا المدنيين، طالما انهم ليسوا غربيين.
المجزرة الاخيرة التي ارتكبها طيران التحالف العربي في حفل عزاء في صنعاء، لا تخرج عن هذا السياق العسكري المعاصر الذي بات من عاديات الحرب السورية ومن مآثر الطيران الروسي والسوري اليومية في حلب وسواها من المدن السورية: الجيوش تتحصن وراء ترسانتها المتطورة وتستخدمها بطريقة وحشية بشعة ، وتترقب من العدو او الخصم ان يصرخ من الألم وأن يرفع الراية البيضاء.. لكن من دون جدوى حتى الان، لأن أحداً من المحاربين لا يقيم وزناً للمدنيين، أينما كانوا ولأي جهة انتموا وفي اي بقعة إنتشروا.
من يصرخ أولا هو من ينكسر أخيراً . تلك هي العقيدة الجديدة للحرب، السائدة في اليمن ، والراسخة في سوريا. وأي نقاش في إخلاقية تلك العقيدة هو نوع من الخيانة.. وهي الصفة التي يمكن على الارجح أن تطلق على الفكرة الآتية: لتكن مذبحة صنعاء فرصة سعودية للاعتراف والاعتذار والخروج من تلك الحرب العبثية الدامية، التي ما عادت تخدم أي غرض سياسي بل باتت تستنزف الخليجيين واليمنيين والعرب أجمعين، وتحقق مكاسب تكاد تكون مجانية للايرانيين.. الذين يمكن كبح تدخلهم في الشؤون الداخلية العربية وقتالهم على جبهات أخرى أكثر أهمية من الجبهة اليمنية ، مثل الجبهة السورية التي كانت وستبقى واحداً من أهم مؤشرات إختلال موازين القوى العربية الايرانية.
لتقف حرب اليمن عند حد تلك المذبحة المروعة، التي قد يكون أسوأ ما فيها انها تشكل حافزاً ومبرراً إضافياً للمذابح التي يرتكبها الطيران الروسي والسوري، والتي يروح ضحيتها يوميا ما يوازي او يزيد عن عدد ضحايا صنعاء.
ما بين مذبحة ومذبحة
ما بين مذبحة ومذبحةساطع نور الدين
NewLebanon
مصدر:
المدن
|
عدد القراء:
611
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro