ما إن أطل الخطيب من على المنبر الحسيني، حتى بدأ بالكلام عن خصوصية المكان الكربلائي. خلص أولاً إلى أن كربلاء هي الجودي الذي استوت فيه سفينة نوح بعد الطوفان. ثم هي ثانياً المكان القصي الذي ولد فيه السيد المسيح. وثالثاً هي الوادي المقدس طوى حيث هبط الوحي على موسى. وأما رابعاً فهي المكان الذي رُدّت فيه الشمس لعلي بن ابي طالب. لينتقل بعد ذلك إلى الخوض في مفاضلة عقيمة بين الأنبياء (ما خلا النبي محمد) والأئمة، وصولاً إلى مقارنة لا مبرر لها بين السيدة مريم والسيدة الزهراء.
خطيب آخر دخل في «تأليهيات» المعصوم، فاسترسل في الحديث عن كيف أن الله خلق المعصوم ليتولى شؤون الكون والوجود، وكيف أنه (المعصوم) يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتحكم بالأكوان والأفلاك والذرات، مع استدراك متأخر أن ذلك كله بإذن الله. لينتهي به المطاف الى خلاصة مفادها «إنا للحسين وإنا إليه راجعون»، وأن اهل البيت هم أصحاب الولاية التكوينية بتفويض من رب العالمين.
خطيب ثالث اتخذ من اللعن موضوعاً له، فخلص إلى إعادة تأسيس الفهم الديني على قاعدة لعنية، واضعاً لعن الأعداء والنواصب في دائرة الاستحباب، ومميزاً له عن السب الذي يندرج في إطار المنهي عنه، معتبراً أنه (اللعن) شرط للفوز والخلاص، وانه لولا لعن المؤمنين للظالمين الذين قتلوا الحسين، لصاخت الأرض وتوقفت الأفلاك عن الدوران، ولما قبلت صلاة ونبت زرع وحملت انثى واستجيب دعاء.
بالعموم، لم تنجُ الواقعة الكربلائية، مع ما هي عليه من حقيقة ناصعة، من التشوّهات الإحيائية التي عملت على إخراجها من الواقع الى الخيال، ومن الحقيقة إلى الأسطرة، ومن القيم إلى الطقوس، ومن المحبة الى الضغينة، ومن كونها رسالة أبدية تنطوي على رؤية كونية، إلى كونها مناسبة سنوية يتقدّم فيها البعد الشكلاني على المضمون التربوي والروحي. علماً أن عظمة الواقعة تكمن في واقعيتها، وفي كون الحسين بشراً تحمّل مجرياتها وخاض غمارها ببعده الإنساني الذي يعيش على الأرض، وليس ببعد ملائكي هابط من السماء. فلا شيء يُضرّ بالرسالة الحسينية أكثر من التحريفات التي تطالها، والمبالغات المضافة إليها، ذلك أن الأمر أشبه بالإبطال الذي يعتري الصلاة بسبب زيادة عدد ركعات الفريضة تحت عنوان الاستحسان وزيادة الخير.
قامت ثورة الإمام الحسين على مبادئ أخلاقية وإنسانية واجتماعية إلى جانب ما تنطوي عليه من أبعاد سياسية. فهي من الناحية النظرية، المستمدة من وقائعها وأحداثها، منظومة إصلاح وتغيير متكاملة على صعيدي الفرد والجماعة، حيث توقف عندها الكثير من المفكرين والمصلحين الاجتماعيين في الشرق والغرب على حدّ سواء، فوجدوا فيها فلسفة عملية تدعو إلى العدالة والمحبة والحرية والتضحية والكرامة، فيما مازال بعض المقرئين يعبرون عنها بما تفيض به مخيلاتهم وجهالاتهم، فبالغوا في المبالغ فيه، حتى اتخذوا منها في مروياتهم أسطورة فوق الحقيقة، وحكاية تدغدغ الخيال.
ومن الملابسات الإحيائية التي تشهدها بعض المجالس العاشورائية في بعض البلاد العربية والإسلامية، تحويل المناسبة إلى كرنفال تعرض فيه المشهديات الهجينة المسيئة إلى المذهب، من قبيل التطبير والزحف، بنحو يفقد الإحياء العاشورائي وظيفته الأساسية، لمصلحة تجييش الانفعالات والغرائز على حساب روحانية المناسبة وعقلانية التشيّع.
باختصار، عاشوراء نهضة انسانية متكاملة، ولا يجوز لأي مقرئ عزاء تحويلها الى حالة عجينية يتصرف فيها كيف يشاء، بغية استدرار دموع الحاضرين وإعجابهم.
حبيب فياض