ليس أمراً بلا دلالة أن نسترجع من على هذه المنصة وفي هذه الأيام بالذات أصداء تلك الصرخات العاتية التي ارتفعت في نادي النبطية الحسيني دفاعا عن تلك الشتلة الساحرة التي لم يكتف الجنوبيون بضبط حيواتهم على إيقاع دورانها البطيء، بل حددوا في ضوء نموها علاقتهم بالأحلام والكوابيس، وماهوا بين جسدها المعروق وعروق شرايينهم واختاروا لأنفسهم من العطور ما يتناسب مع روائحها النفاذة ومن الأمراض ما يليق بدخانها المسموم .
والذين يجلسون الآن على هذه المنصة هم أنفسهم ظلال ما كانوه قبل ثلاثة وأربعين عاما، كما لو أن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي أراد لنا أن نكون أحفاد أنفسنا وأن نرمم عبر أمسيته الإستعادية ما أصاب أرواحنا من شروخ ووجوهنا من تجاعيد .
كنت أرغب أيها الأصدقاء أن لا أتورط في الحنين إلى هذا الحد، ولكن أنّى لي ذلك وقد جعلت الحنين إسما لإبني البكر. وكنت أرغب أن لا أتورط في البلاغة أيضا لو لم يرتبط عنوان هذه الندوة بإسم المقعد الشاغر للسيد هاني فحص الذي يصعب أن يشغله أحد سواه، والذي أتخيله يخاطبني الآن باسماً من وراء قبره وبلسان محمود درويش : " يا شوقي لا تعتذر عما فعلت". فمن دون البلاغة والحنين لن تكون الشاعر الذي نعرفه ولم يكن السيد هاني الذي عاد من كوكبة من مجايليه كالسيد محمد حسن الأمين والسيد كاظم ابراهيم الجالس إلى جواري ليشاطر من عرفوا بشعراء الجنوب الوقوف على منبر نادي الشقيف في أوائل السبعينات لو لم يصغ بنفسه عقد القران الأجمل بين النص والتأويل، وبين الدين والحداثة، وبين فقه التراب ونداء السماء. ولشدة شبهه بنا نحن علمانيي ذلك الزمان كنا نشعر أننا هو لولا الجبة والعمامة، وأنه نحن لولا تجرؤنا على المعاصي . وإذا كان من باب التواضع قد أعلن في أحد كتبه بأنه لا يقرض الشعر بل يقترضه فلست لأبالغ إذا قلت بأنه كان مصنوعا من مادة الشعر نفسها وأنه كان يقطفه من منابته الخام ويسيله في نثره كما يسيل العسل الخالص على صخور البراري.
ولم يكن السيد هاني فحص يرى الله في دور العبادة أكثر مما يراه في عرق الفلاحين وضفائر الينابيع وحدقات عيون الأطفال، ولم يره في حرقة قلب زينب على أخيها الحسين أكثر مما رآه في حرقة المجدلية وهي تغسل بدموعها قدمي المسيح .
كان يؤمن في قرارته بأن من لا أرض له لا سماء له، ولذلك فقد رأى في الدين عروجا باتجاه الأرض لا انفاصالا عنه، والتحاما بوجع المقهورين لا التحاقا بالبلاطات ولا تمرّغا وضيعاً على أبواب السلاطين. غير أنه كما أرهقه الشعور بالغربة وصدّعت رأسه الشكوك وعصفت به رياح المنافي يعود إلى جبشيت ممثلا عودة مصطفى سعيد بطل الطيب صالح إلى أرضه الأم . أو قل هو مصطفى سعيد بلا نسائه الكثيرات حيث ملكت عليه أم حسن قلبه ولبّه .
أما شتلة التبغ فقد رأى فيها السيد ونحن واحدة من أساطير المؤسسة للوجدان الجنوبي الجمعي إذ في ظل ارتفاعها عن الأرض كنا نحن الجنوبيين نعيش أطفالا ما أصبناه من طول . وبالقياس إلى مذاقها المر كنا نتلذذ بحلوى الأعياد . وفي ضوء خضرتها الباهرة امّحى كل ما علق في أبصارنا من ألوان بحيث نحسب دموعنا خضراء حين نبكي، وشهواتنا خضراء حين نحب ودماءنا خضراء حين نسقط شهداء . هذه الشتلة التي اتخذت أوراقها شكل القلب وتعهدنا غصونها بالمهج قبل الأيدي تحولت مع الزمن إلى طقس شبه ديني حيث لا يكاد المؤذنون يفرغون من أذان الفجر، تنحني على جذوعها الرخصة قامات الرجال والنساء والأطفال، ويُسمع لأوراقها المقطوفة بالأصابع صرير متناغم الجرس، تلقفه الفلاحون بالأغاني والمواويل والحداءات وتلقفه الشعراء بالقصائد وهيأ لنا من الإيقاعات والأوزان ما هيأه للخليل بن أحمد خبب الجمال على الرمال .
لم أكن هناك في ذلك اليوم الذي اجتاحت فيه الملحمة لكي تكتمل إلى ظهيرها الدموي حيث كان السيد هاني فحص يؤم صلاة الخبز ويقف مع ثلة من المناضلين ضد صيارفة الجوع ولصوص الهيكل وسدنة النهب المنظم . كنت بعدُ طالبا على مقاعد الدراسة حين اختار حسن الحايك ونعيم درويش أن يرتقا عقد الأوراق المتناثرة بخيوط من دم . وإذا كنت قد أهديت قصيدتي " في الشمس كالأنبياء " إلى حسن الحايك لا إلى رفيقه المغدور فلم يكن ذلك انحيازا لشهيد دون الآخر، بل لأن الصورة التي نشرتها جريدة النهار على صفحتها الأولى بدت أشبه بفرينكا مصغرة أبطالها رجل واحد وطلقة واحدة وإصبع تضغط على زناد الجريمة . كان الرجل المصاب يضع يده الخشنة على صدره المثلوم وكان وجهه الفلاحي يختزن في تجاعيده كل حزن العالم وغضبه وعنفوانه، وفيما كانت مدن الجنوب وقراه ترفل بالزغاريد كانت الجبال ترتفع قليلا إلى الأعلى والأشجاد تتهيأ لالتقاط دمه المراق .
شوقي بزيع
الكلمة ألقيت في ندوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حول دور العلامة هاني فحص في دعم اتفاضة مزارعي التبغ في الجنوب وتأتي في الذكرى الثانية لرحيل العلامة فحص .