ذهب "وزير الشعائر الحسينية" إلى أوروبا الشرقية (وزير الشعائر: منصب استحدثته الدولة الصفوية في القرن 16 م) ... وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسيم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك حتى أنماط الديكورات التي كانت تُزيَّن بها الكنائس في تلك المناسبات، واقتبس تلك المراسيم و الطقوس وجاء بها الى إيران حيث استعان ببعض الملالي لإجراء بعض التعديلات عليها لكي تصبح صالحة لاستخدامها في المناسبات الشيعية وبما ينسجم مع الأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران، ما أدى بالتالي إلى ظهور موجة جديدة من الطقوس والمراسم المذهبية لم يعهد لها سابقة في الفلكلور الشعبي الايراني ولا في الشعائر الدينية الاسلامية، ومن بين تلك المراسيم النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال والتطبير واستخدام الآلات الموسيقية وأطوار جديدة من قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى، وهي مظاهر مستوردة من المسيحية بحيث بوسع كل إنسان مطلع على تلك المراسيم أن يشخص أن هذه ليست سوى نسخة من تلك !
تتضمن مراسم العزاء المسيحي تمثيل حياة شهداء الحركة المسيحية الأوائل وإظهار مظلوميتهم وطريقة قتلهم بواسطة حكام الجور والشرك وقياصرة الروم وقواد جيشهم وكذلك التطرق لسيرة الحواريين و مأساة مريم (ع) وبيان فضائلها وكراماتها ومعاناتها، والأهم من ذلك تجسيد مأساة عيسى المسيح (ع) وألوان التعذيب الذي لاقاه سواء من قومه (اليهود) أو من الحكام الظلمة (القياصرة)، و كل ذلك تحت عنوان (Passions) أي المصائب، وهو مصطلح يطلق على مجموع هذه المراسيم التي اقتبسها الصفويون وأدخلوها إلى التاريخ الشيعي لتصبح جزءاً من الهوية الشيعية و تستخدم في تجسيد المصائب التي تعرض لها أهل البيت و الزهراء (ع) والإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه .
جدير ذكره أن مراسيم اللطم و الزنجيل و التطبيل وحمل الأقفال ما زالت تمارس سنويا في ذكرى (استشهاد) المسيح (ع) في منطقة (Lourder) وعلى الرغم من أن هذه المراسيم دخيلة على المذهب وتعتبر مرفوضة من وجهة نظر إسلامية ولم تحظ بتأييد العلماء الحقيقيين بل إن كثيراً منهم عارضوها بصراحة لأنها لا تنسجم مع موازين الشرع، مع ذلك فإنها ما زالت تُمارس على قدم وساق منذ قرنين أو ثلاثة، مما يُثير الشكوك أكثر حول منشئها ومصدر الترويج لها، ويؤكد أن هذه المراسيم تجري بإرادة سياسية لا دينية وهذا هو السبب في ازدهارها وانتشارها على الرغم من مخالفة العلماء لها. وقد بلغت هذه المراسيم من القوة والرسوخ بحيث أن كثيراً من علماء الحق لا يتجرأون على إعلان رفضهم لها ويلجأون إلى التقية في هذا المجال !!
وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من المباشرين لهذه الأعمال .... يقنعون أنفسهم بأن هذه الأعمال خارجة عن نطاق الشريعة وداخلة في نطاق الحب الذي لا يلتزم كثيراً بالقيود والضوابط ...
وقد اخترعوا من أنفسهم أسطوانات جديدة يكررونها لإقناع بل خداع أنفسهم قبل غيرهم فيقولون مثلا ً: هذا العمل لا يندرج تحت قائمة المستحب والمكروه أو الحلال والحرام، إنه جنون حب علي والحسين، حب الحسين اجنني، ...، لو أن الله سبحانه وتعالى ألقانا في جهنم عقوبة على حب الحسين فما اشوقنا إلى نار جهنم ! إلى غير ذلك من الجمل والعبارات ...
واضح جداً ...أن هذه المشاعر والأحاسيس هي مشاعر غلوّ وإفراط نجمت عن ... مبالغات الخطباء والشعراء. وكل هذه المظاهر تستمد وجودها من عصب صفوي يُغذِّيها وينفخ فيها من أجل تضخيمها يوماً بعد يوم.
.... ولا شك أن هذه المظاهر مقتبسة من المسيحيين، حيث توجد لديهم ممارسات وطقوس دينية مماثلة من قبل (الرجال السبعة mystères 7) أو (الميراكل Miracles ) مضافاً إلى تشييع رمزي لنعش عيسى (ع) مصلوباً وهبوطه وعروجه ونحو ذلك .
أما النوائح التي تؤدى بشكل جماعي فهي تجسيد دقيق لمراسيم مشابهة تؤدى في الكنائس ويطلق عليها إسم (كر) كما أن الستائر ذات اللون الأسود التي توشح بها أبواب وأعمدة المساجد والتكايا والحسينيات وغالباً ما تطرز بأشعار جودي ومحتشم الكاشاني هي مرآة عاكسة بالضبط لستائر الكنيسة، مضافاً إلى مراسيم التمثيل لوقائع وشخصيات كربلاء وغيرها حيث تحاكي مظاهر مماثلة تقام في الكنائس أيضا وكذلك عملية تصوير الأشخاص على رغم كراهة ذلك في مذهبنا، حتى هالة النور التي توضع على رأس صور الأئمة (ع) وأهل البيت هي مظهر مقتبس أيضا وربما امتدت جذوره إلى طقوس موروثة عن قصص أيزد و يزدان وغيرها من المعتقدات الزرادشتية في إيران القديمة .
كل هذه المراسيم والطقوس الاجتماعية والعرفية هي صيغ مقتبسة مما هو عند المسيحيين في أوروبا، و قد بلغت هذه الظاهرة حدا من السذاجة أن الاقتباس يتم بصورة حرفية دون أدنى تغيير، حتى أن بعض هذه المظاهر تنطوي على رفع علامة الصليب، .... نرى أن بعض الجوقات يتقدمها ما يسمى بـ (الجريدة) وهي شيء يشبه الصليب وكان بعينه يستخدم في جوقات العزاء المسيحية ولا يعرف أحد مغزى ذلك من بسطاء الشيعة حتى حاملو هذه (الجريدة) لا يدركون السبب في حملهم إياها، ولكن مع جهل الجميع بماهيتها ومعناها وفلسفة حملها فإن المشتركين في الجوقة يعتقدون أن شأنهم واعتبارهم رهين بهذه (الجريدة) ومدى الاهتمام بها حتى أن معارك ومشادات تحصل من أجل أن يحظى الأفراد بشرف حملها وتتسابق الجوقات في تزيين جريدتهم بحيث تبدو أكبر وأجمل وأثقل ! يجدر الإشارة إلى أن (الجريدة) ليست تقليداً للصليب بالشكل فحسب بل أن إسمها كذلك يعود تاريخياً إلى إسم الصليب وقد جاء معها من أوروبا الشرقية وذلك أن كلمة (جريدة) لا مفهوم لها لا في الفارسية ولا في العربية، وهذا الكلام ينسحب على سائر الديكورات و الأزياء والستائر التي جاءت جميعاً من أوروبا الشرقية وإيطاليا على وجه الخصوص حيث مركز الكنيسة الكاثوليكية، ونظراً لأن المساجد لم تكن مكاناً مناسباً لقبول مثل هذه البهارج فقد استحدث بناء جديد يُطلق عليه إسم (التكية) وأصبح فيما بعد مركزاً لتسويق مثل هذه الأمور الغربية على الدين والمذهب.
الدكتور علي شريعتي