بعد قراءة متمعّنة لنص قانون «جاستا» يصعب تصوّر آلية واضحة لتطبيقه، كونه غير مسبوق في العلاقات بين الدول، وتحديداً في إجازة مقاضاة الدول ومحاكمتها. فثمة مادة تقول بأنه «لن تكون هناك دولة أجنبية محصّنة أمام السلطة القضائية للمحاكم الأميركية» في أي قضية ترفع أمامها لتحصيل تعويضات على خلفية عمل إرهابي. فكيف يمكن أي إدارة أميركية أن ترفع الحصانة عن أي دولة تقيم معها علاقات خاضعة للقواعد السيادية التي ترعاها معاهدات دولية، ففي هذه الحال يقترح أصحاب «القانون ضد رعاة الإرهاب» بل يقرّرون أن «جاستا» أعلى من أي قانون دولي. وبالتالي كيف يمكن القضاء الأميركي أن يتهم حكومة أجنبية بالإرهاب ويدينها ثم يصدر حكمه ضدّها إذا لم تكن الحكومة والكونجرس الأميركان قد سجّلا ضد تلك الدولة أي اتهام أو إدانة موثّقَين، ويمكن أن يشكّلا قاعدة ومرجعية لمسار الدعوى أمام المحكمة.
هناك عشرات بل مئات الأسئلة التي حاول طبّاخو «جاستا» الإجابة عنها من خلال التعديلات التي أجروها على مواد في قوانين أخرى، فهم يناقشون مسودة قانونهم منذ عام 2009، ولا شك أنهم وضعوا في الأساس نصّاً متخماً بثغرات راحوا يحاولون سدّها سواء بتهمة «التحريض» وبتهمة «توفير الموارد» (للإرهابيين). ولأنهم ظلّوا مدركين أن «جاستا» لا يستطيع الصمود لدى تشريح أي قضية فقد جاؤوا بالمادة التي تبقي باباً أخيراً مفتوحاً، وهو أن تتولّى وزارة الخارجية التفاوض على «تسوية» مع الدولة المعنية. وهذه التسوية ترمي إلى إقرار تعويضات كحلٍّ توافقي، لكنها تعني أن الدولة المتّهمة تقرّ بشكل أو بآخر بأنها مذنبة. وبما أن اللجوء إلى القنوات السياسية لإحراز تسوية يخرج المسألة من المسار القضائي - الحقوقي - القانوني، فإن «جاستا» يظهر هنا على حقيقته، ليس فقط في «قوننة» الابتزاز المكشوف، بل في استخدامه قضية إنسانية تتمثّل بمعاناة ذوي ضحايا الإرهاب لتحقيق مصالح خاصة لزمرة من الكونجرسيين وشركات المحاماة المرتبطة بهم.
الشائع والمفهوم أن هذا القانون يستهدف المملكة العربية السعودية، لأن 15 من أصل 19 إرهابياً نفّذوا هجمات 11 سبتمبر 2001 كانوا سعوديين. وما دامت أحكام «جاستا» عمومية فلا شيء يمنع أن تشمل المقاضاة الدول الثلاث التي ينتمي إليها الأربعة الآخرون (إماراتيان ومصري ولبناني)، أو إحداها، مصر مثلاً، باعتبار أن عدداً من أخطر قادة «القاعدة» مصريون، ومنهم الزعيم الحالي للتنظيم. لكن الشائع أيضاً أن واشنطن وأجهزتها الأمنية حسمت منذ العام 2002 كل الشكوك المتعلّقة بـ«مسؤولية حكومات أجنبية» في الهجمات الإرهابية، وهو ما أثبته التحقيق الرسمي الذي أبقى 28 صفحة مكتومة استخدمها المروّجون لـ«جاستا» قبل صدوره إلى أن نشرت منتصف تموز (يوليو) الماضي وتبين أنها لا تتضمن أي اتهام للرياض. وكما كان وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل أول المطالبين بنشر تلك الصفحات، فإنه كان أول مسؤول سعودي يزور واشنطن بعد 11 سبتمبر ليبدي استعداد حكومته للتعاون مع أي تحقيق. ولو كانت لدى إدارة جورج بوش الابن آنذاك أي معلومات أو شكوك، قبل نشر التحقيق الرسمي وبعده، لما تردّدت في استخدامها.
المؤكّد أن «جاستا» سلاح ذو حدّين، والمحاذير التي أشار إليها باراك أوباما في رفضه للقانون واردة، من احتمال تعرّض عسكريين ودبلوماسيين للمساءلة أمام محاكم أجنبية، إلى انعكاس تطبيق «جاستا» على التعاون في مجالات التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، إلى تأثّر عقود الاستثمار والتجارة. لكن الاحتمالَين الأكثر سوءاً في أي محاكمات متوقّعة يكمنان في فتح ملفات لا ترغب واشنطن في كشفها ومنها ما يتعلّق بالتعاون الاستخباري، وكذلك في تحوّل الدعاوى إلى محاكمات سياسية للطرفَين، بما في ذلك العودة إلى تعريف الإرهاب لتحديد المسؤولية عنه، ما دام «جاستا» ينطلق من فرضية خبيثة مضمرة بأن السعودية كدولة تتحمّل مسؤولية أفراد يحملون جنسيتها وتحوّلوا إلى إرهابيين.
كانت السعودية ولا تزال من الدول الصديقة الأقرب إلى الحليفة للولايات المتحدة، ولم تُدرج يوماً على لوائح الإرهاب الأميركية، كما هي حال إيران. فأي رسالة تبعث بها واشنطن من خلال قانون «جاستا». هي رسالة مفادها أن الأسهل ابتزاز الأصدقاء في جرائم لا علاقة لهم بها، طالما أن المحاسبة متعذّرة للنظامين الإيراني والسوري، أو أي أنظمة أخرى مدرجة فعلاً على لوائح الإرهاب. ففي تفجيرَي بيروت (1983) وتفجير الخُبر (1996) قتل وجُرح أكثر من ثلاثمئة عسكري وعشرات الدبلوماسيين الأميركيين وكانت لإيران علاقة مثبتة بها. هنا فضّل أعضاء الكونجرس النسيان.
"الاتحاد"