ارتبط اسم المستشرق الإنجليزي الأصل برنارد لويس بالأحداث والمتغيرات السياسية التي وقعت في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011.
فقد عدّت غالبية القوى الرافضة لتلك الثورات توقعاته خطوة ضمن خطة غربية أمريكية ممنهجة لتقسيم الشرق الأوسط وتفتيت الكيانات السياسية، والدول القومية الموجودة فيه.
تلك الآراء أعلنت أن المستشرق البريطاني اليهودي، صاحب الجنسية الأمريكية، هو المنظر الفكري الأول لتلك الخطة الامبريالية، التي قُصد بها إضعاف الدول الشرق أوسطية، عن طريق اختلاق النزاعات العرقية والمذهبية والأثنية، وتركها في النهاية لتكون فريسة لأتون الحرب الأهلية والنزاعات الطائفية المدمرة.
ورغم كثرة الأخبار والأقوال والخطط، المنسوبة إلى لويس، والتي تراه مسؤولاً بشكل مباشر عن التخطيط والتدبير لما عُرف إعلامياً بـ"الجيل الرابع من الحروب"، لا تتوافر أي مصادر أو مراجع أو وثائق تثبت تورط لويس في تلك المخططات المزعومة.
من هو برنارد لويس؟
ولد Bernard Lewis في لندن، في مايو عام 1916، وكانت أسرته يهودية إنجليزية متوسطة الحال. التحق بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ودرس فيها تاريخ الشرق الأوسط والشرق الأدنى. وعام 1936 تخرج وحصل على إجازة في تاريخ تلك المناطق.
واللافت أن لويس حصل على تلك الإجازة، التي تخوله حق الكتابة عن التاريخ الشرق أوسطي ونقد التراث الشرقي، وعمره لا يتجاوز العشرين عاماً. وهي سمة غالبة على الكثير من المستشرقين، الذين تخصصوا في التاريخ الإسلامي، والذين عرفوا باجتيازهم للدراسات التمهيدية والأساسية لتاريخ الشرق الأوسط في سن صغيرة، ما يلقي بالكثير من الشكوك حول قدراتهم واستعداداتهم للتخصص في ذلك الفرع من العلم.
عام 1939، وبعد 3 أعوام فقط من تخرجه، استطاع لويس الحصول على درجة الدكتوراه في تخصص "التاريخ الإسلامي".
بعد ذلك، شغل منصب رئيس قسم في معهد الاستشراق في جامعة لندن، وبعد فترة، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك حصل على الجنسية الأمريكية، وعمل في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة بريستون.
ويُعتبر لويس واحداً من أكثر المستشرقين غزارة في إنتاجه العلمي والفكري. إذ قام بنشر العشرات من المقالات والأبحاث العلمية المهمة، بالإضافة إلى أنه أصدر نحو 30 كتاباً.
كيف جاءت توقعات لويس للشرق الأوسط؟
اهتم في آخر كتبه وأبحاثه بتقديم رؤية استشرافية لمستقبل الشرق الأوسط وعلاقته بالغرب. في كتابه "مستقبل الشرق الأوسط"، الذي نشر عام 1996، يحاول لويس أن يتوقع التغيرات السياسية والفكرية، التي ستطرأ على المنطقة.
بالنسبة للقوى العظمى المؤثرة في المنطقة، يتوقع أن يتزايد التأثير الأميركي بشكل كبير، بينما ستكون روسيا خارج دائرة التأثير في الشرق الأوسط بشكل مرحلي. وسيقابل التأثير الأمريكي، صعود في النظريات التآمرية ضد إسرائيل واليهود وأميركا والغرب عموماً.
أما في ما يتعلق بقوة حركات الأصولية الإسلامية، فيرى لويس أنه من الممكن أن تظهر حركات إسلامية معتدلة الطابع، تقوم بإضعاف التيارات الأصولية، كما يمكن أن تخرج من داخل صفوف الإسلاميين الراديكاليين.
يؤكد لويس أن أي انتخابات نزيهة وعادلة في الشرق الأوسط، ستشهد فوزاً كبيراً للإسلاميين على العلمانيين، بسبب تغلغلهم في مجتمعاتهم، وبُعد عامة الناس في تلك المجتمعات، عن الأحزاب الليبرالية ذات التوجهات الغربية.
وفي حوار صحافي عُقد معه في مارس عام 2013، يؤكد المستشرق البريطاني أن الانتخابات التعددية التي أعقبت ثورات الربيع العربي، ستقدم فرصاً كبيرة لتيارات الإسلام السياسي للوصول للحكم. وهو يعرب عن مخاوفه من إمكان غوص تلك الدول في أوحال القرون الوسطى.
ولعل واحداً من أهم التوقعات الموفقة التي قالها لويس عام 2005، إشارته إلى أن الوسائل الإعلامية والثورة التكنولوجية في أدوات وتقنيات الاتصالات، ستؤثر في إحساس المسلمين بواقعهم السيىء، وحاجتهم إلى تغييره واستبداله بواقع أفضل.
وهو الأمر الذي تحقق فعلياً في ثورات الربيع العربي، التي استفادت كثيراً من تطور تقنيات التواصل، خصوصاً في ما يخص مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية.
أما في ما يتعلق بالأوضاع السياسية في دول الشرق الأوسط، فهو يرى أن العالم الإسلامي سيشهد صراعاً على القيادة بين إيران وتركيا، وذلك في الوقت الذي سيبقى فيه العرب منشغلين بالقضية الفلسطينية، التي لن تشهد أي تقدم بسبب تزايد نسبة اليهود من ذوي الأصول الشرق أوسطية في إسرائيل، ما سيؤدي إلى تهديد عملية السلام الديموقراطية الغربية النمط في إسرائيل.
لكن أهم التوقعات التي قال بها برنارد لويس، ولاقت انتشاراً كبيراً وذيوعاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، هي تلك المتعلقة بعمليات الاندماج والتفتت التي قد تطال الكيانات السياسية في المنطقة. فيضع سيناريوهين مختلفين لمستقبل الكيانات السياسية في المنطقة.
السيناريو الأول (الاندماج)
يرى أن هناك احتمالاً لحدوث عدد من العمليات الاندماجية بين عدد من الدول في المنطقة، وستكون رغبة القيادة السياسية التوسعية في إحدى الدول القوية، هي السبب الرئيس لحدوث مثل تلك العمليات الاندماجية السياسية.
سوريا من الممكن أن تضم إليها الجولان ولبنان والإسكندرونة، أما العراق فقد يتوسع ناحية الأردن والكويت وإيران والسعودية. إيران أيضاً من الممكن أن تطالب بأجزاء في كل من البحرين والخليج العربي وطاجيكستان وأفغانستان. أما مصر، فقد تعمل على إعادة تحقيق وحدة وادي النيل فتضم السودان إليها، أو توجه وجهها ناحية الغرب فتسيطر على ليبيا.
ونلاحظ أن تلك الرؤية المستقبلية، التي يقدمها لويس للعمليات الاندماجية في المنطقة، كانت معلقة بشرطين، الأول هو حالة الاستقرار في الدول التي تسعى للاندماج، والثاني هو وجود زعماء سياسيين أقوياء في تلك الأنظمة التوسعية، مثل صدام حسين في العراق.
ولكن مع دخول الدول الشرق أوسطية الكبرى في حالة من عدم الاتزان، بفعل الثورات التي اندلعت في المنطقة، فإن السيناريو الاندماجي التوسعي الذي يضعه لويس يبدو بعيداً وغير واقعي.
ولويس نفسه يشير إلى الاحتمالية الكبيرة في عدم تحقق هذا السيناريو المستقبلي، ويعترف أن حظوظ المحاولات الاندماجية في النجاح ليست بالكبيرة.
السيناريو الثاني (التفكك)
في هذا السيناريو، يشير لويس إلى دور الاختلافات الإثنية والعرقية والمذهبية في إحداث الكثير من الحركات الانفصالية التفكيكية المستقبلية في عدد من الدول الشرق أوسطية.
يرى لويس أن هناك عدداً من الدول المرشحة بقوة لحدوث حالة من التفكك فيها، منها العراق، الذي توجد فيه مشكلات ناتجة عن الاختلافات الإثنية-العرقية (العرب والأكراد)، ومشكلات ناتجة عن الخلافات المذهبية (السنة والشيعة).
السعودية أيضاً من الدول المرشحة للتفتت، وذلك تحت وطأة الخلافات المذهبية والقبلية، وتصاعد القوى الأصولية، وتدهور الظروف الاقتصادية. ومن الممكن أن تلعب الظروف نفسها دوراً كبيراً في تهديد وحدة الدولة السورية. ويرجح لويس أنه من الممكن أن تتفكك أراضي سوريا إلى إقطاعيات متنازعة.
أما بالنسبة لإيران، فرغم ما بها من اختلافات إثنية ومذهبية، فإن لويس لا يرى أنها من الدول المرشحة للتفتت في المستقبل القريب. والسبب أن إيران دولة قديمة، تتمتع منذ قرون، بل ألفيات، بوجود سيادي وشعور قوي بالهوية الثقافية.
وعلى الجانب الآخر، يضع لويس قائمة بالدول التي ستكون في منأى عن أي صراع طائفي أو مذهبي في المستقبل. على رأس تلك القائمة، مصر، ويبرر ذلك بأن مصر "أمة بكل ما في الكلمة من معنى"، وأنه في المستقبل كما في الماضي "ستبقى مصر مصرية بامتياز بغض النظر عن أي تغيرات قد تطرأ على النظام أو حتى الثقافة".
ومن الدول الأخرى التي يرى أنها ستحافظ على وحدتها وتماسكها، المغرب، تونس، اليمن، ولبنان.
ويقول لويس إن المنطقة الشرق أوسطية، ستشهد حروباً حول قضيتين أساسيتين في المستقبل القريب، هما النفط والماء.
فمع اقتراب انتهاء المخزون النفطي الإيراني، من المتوقع أن تحاول الدولة الفارسية أن تتوسع لتسيطر على مصادر الحقول النفطية القريبة منها، والتي تقع في يد جيرانها من العرب.
كما أن فكرة انتهاء مخزون النفط في المنطقة الشرق أوسطية، تنبئ بتغير كبير في أهمية المنطقة على الصعيد العالمي. فستصبح الصراعات في المنطقة عندئذ هامشية في أجندات الدول الكبرى، وسسينظر العالم إلى صراعات الشرق الأوسط واضطراباته بالتجرد واللامبالاة القاسية اللذين ينظر بهما اليوم إلى الحروب الأهلية في الصومال وليبريا.
أما مشكلة المياه العذبة، فيتوقع لويس أن تثير الكثير من الاضطرابات في المنطقة، ولكنه يرى أنه من الممكن أن تحدث تسوية عادلة، وتعاون بين عدد من الدول.
هل تصدق توقعات لويس؟
نستطيع القول إن تحليلات لويس لمستقبل الشرق الأوسط تحققت بشكل كبير، خصوصاً في ما يخص السيناريو التفكيكي. وهو الأمر الذي تشهد عليه المعارك الطاحنة بين الفصائل والطوائف المتناحرة في سوريا والعراق واليمن.
كما أن توقعاته بوصول تيارات الإسلام السياسي للسلطة في ما بعد ثورات الربيع العربي، تحققت في دول مثل مصر وتونس، ولم تجد تلك التيارات مشكلة في الوصول لكرسي الحكم في ظل انتخابات عادلة. ولكنها، كما توقع لويس، لم تستطع أن تحافظ على ذلك الكرسي لفترة طويلة، بعد أن فشلت في الاحتفاظ بتأييد الشعب لها.
على الجانب الآخر، أكثر التوقعات الفاشلة للويس، هو اعتقاده بانحسار النفوذ الروسي عن المنطقة. فالمتابع للشؤون السياسية في الشرق الأوسط، سيلاحظ تداخلاً روسياً قوياً ومتحدياً للنفوذ الأميركي بشكل واضح.
سيناريو الاندماج كذلك لم يتحقق، ولكن تبدو إرهاصاته واضحة في النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا واليمن ولبنان والعراق، ما يعطي احتمالية لتحققه في المستقبل القريب.
وتبقى حروب النفط بعيدة عن الحدوث في المستقبل القريب، خصوصاً مع حالة الانخفاض الحاد لأسعار النفط وتسارع عجلة الأبحاث الغربية في الكشف عن مصادر بديلة للطاقة. أما حروب الماء العذب، فقد تبدو بشائرها في الآفاق واضحة، في ظل المشكلات التي تشهدها المنطقة بين دول المصبات ودول المنابع، والفشل الذريع الذي يحيق بجميع المحاولات التي تهدف لإرساء سبل التعاون المشترك وتهدئة الأوضاع.