الأجواء الرمادية التي خلفتها «المشاورات الرئاسية» للرئيس سعد الحريري، مرشّحة لأن تسيطر على البلد لفترة من الزمن، وقد تطول بعض الشيء، في انتظار ما ستسفر عنه «المشاورات الجدّية» التي سيجريها الحريري خارج لبنان، وعلى وجه التحديد في السعودية، إنْ قبض له ذلك!المسلّم به أنّ الحريري «قرّر التغيير»، ودافعه الذي غطى فيه مشاوراته «أنّ البلد ينهار، ولم يعد في الامكان الانتظار أكثر»، على حدّ تعبيره. لكنه لم يحدّد توقيت إعلان قراره. بل أرجأ هذا الإعلان الى حين جلاء الصورة لديه بالكامل.

ومن هنا أراد لمشاوراته التي أجراها مع القوى السياسية المحلية أن تكون هادئة ومرنة، وكان شديد الحرص على ألّا يستفزّ مَن شملتهم مشاوراته، ومن هنا بدا أنه اعتمد سياسة «لكلّ مقام مقال»، بحيث قال لهؤلاء ما يحبون أن يسمعوه.

وعلى إيقاع هذه السياسة، أرضى النائب سليمان فرنجية، قال له «أنا متمسك بترشيحك، لكن عليك أن تساعدني»، ولم يقل صراحة أنه تخلّى عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية.

وأسمع الحريري النائب ميشال عون ما يحب أن يسمعه، وبدت الرابية بعد لقاء الحريري وعون وكأنها حُقنت بجرعة زائدة من «السعادة الرئاسية»، وسادها اعتقاد أنّ الامور جدّية جداً هذه المرّة أكثر من أيّ وقت مضى. حتى إنّ المقرّبين من الرابية صاروا مقتنعين بأنّ قرار الحريري بتبنّي ترشيح عون، صار على وشك الإعلان.

وأكثر مَن كان سعيداً بالتوجّه الجديد للحريري، هو الدكتور سمير جعجع، المعروف موقفه الاعتراضي وبشدة على ترشيح الحريري لفرنجية، ومعلوم أيضاً أنّ جعجع دخل مع الحريري في خلاف عميق جراء مبادرة الأخير بتبنّي ترشيح فرنجية.

ويمكن قراءة نتائج اللقاء بين الحريري وجعجع، من الاجواء التي عكستها «القوات اللبنانية» من «أنّ المياه عادت الى مجاريها بين الحريري وجعجع»، وأكثر من ذلك «أنّ «القوات» استردّت «المستقبل» والمستقبل استردّ «القوات». ينطوي هذا الكلام على أنّ أسباب الخلاف العميق قد انتفت.

وأما مع النائب وليد جنبلاط، فكان حديث صريح بينه وبين الحريري، ونصائح، واستعراض ما نقله الوزير وائل ابو فاعور من لقائه مع مدير المخابرات السعودي. والذي لم ينطوِ على ما يؤشر صراحة الى أنّ السعودية «ماشية» بخيار ترشيح الحريري لعون.

ومع الرئيس نبيه بري، لم يكن الحريري حاسماً، عرض «أسبابه» التي أوجبت عليه محاولة إحداث خرق في الجدار الرئاسي، قال إنه امام خيارات عديدة؛ إما فرنجية، إما عون، وإما أن ينفض يده من كلّ هذه المسألة. وفي اللقاء سمع في المقابل الاسباب التي أوجبت على بري طرح سلة التفاهمات والمسك بها كسبيل وحيد الى رئاسة الجمهورية.

وإذا كان تزامن زيارة الحريري الى موسكو اليوم، مع مشاوراته الرئاسية في بيروت، يجعلها «محطة رئاسية»، فإنها تبقى ناقصة ما لم يتلقّ منها قوة دفع «جدّية» للمنحى الذي يسلكه، وتقرّبه أكثر فأكثر من حسم خياره الرئاسي المتمثّل بتبنّي ترشيح عون لرئاسة الجمهورية.

ولعلّ الأهميّة الشكلية للمحطة الروسية، تكمن في أنها الزيارة الثانية للحريري الى موسكو خلال ستة اشهر، إذ سبق له أن زارها في نيسان الماضي والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وكان الهمّ الرئاسي اللبناني حاضراً في المحادثات، ولكن لم تبرز آنذاك أيّ مؤشّرات حول «مجاراة» القيادة الروسية للحريري في توجّهه نحو ترشيح عون، أو غيره من المرشّحين، لا بل العكس، كان تأكيد من القيادة الروسية على أنّ الملف الرئاسي اللبناني هو شأن لبناني، وأنّ موسكو تشجّع على اتفاق اللبنانيين، وبالتالي إجراء الانتخابات الرئاسية في اسرع وقت ممكن.

علماً أنّ الموقف الحقيقي لروسيا من الاستحقاق الرئاسي اللبناني، قد بلغت اصداؤه مستويات سياسية ورسمية لبنانية «معنيّة جداً» بالاستحقاق الرئاسي، وفيه أنّ موسكو تشجّع اللبنانيين على الاتفاق على «رئيس توافقي».

مع ذلك، تبقى محطة موسكو، مهمة بالنسبة الى الحريري، فهو سيلتقي وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، إلّا أنها ترتدي أهمية اكبر إذا ما التقى بالرئيس بوتين، ذلك أنّ للّقاء مع لافروف معنى معيّناً، لكن للّقاء مع بوتين معنى آخر.

وعلى أهمية «محطة موسكو» بالنسبة الى الحريري، إلّا أنّ موسكو وحتى لو قرّرت أن تستجيب للحريري وتماشي رغبته بالذهاب الى خيار رئاسي جديد (عون أو غيره)، فإنّ اليد الروسيّة لا تستطيع أن تصفّق وحدها رئاسياً مع الحريري وخياره، خصوصاً وأنّ موسكو تدرك أنّ هناك أيادي أخرى لا بدّ من أن تصفّق معها. يعني ذلك أنّ موسكو تبقى واحدة من «المحطات الرئاسية» التي لا بدّ للحريري من أن يسلكها، ولكن حتى لو تمّت هذه المحطات، فقد ينجح الحريري وقد لا ينجح في تسويق خياره، والفشل هنا له أثمانه.

قد يُقال إنّ المحطة الفرنسية، واحدة من تلك «المحطات الرئاسية» للحريري، إلّا أنّ هذه «المحطة» تُعتبر «مضمونة» بالنسبة اليه، ذلك أنه سبق للحريري أن عبر «محطة باريس»، بنجاح واضح، ولقي خياره العوني قبولاً فرنسياً، بل حماسة شديدة، ترجمتهما باريس بـ«الزيارة التسويقيّة»، التي قام بها وزير الخارجية الفرنسية جان مارك ايرولت في تموز الماضي، ومعلوم أنّ ايرولت طرح آنذاك معادلة «الضمانات»، ولم يلقَ الجواب الذي يريده من «حزب الله»، وبالتالي فشل في تسويق الخيار العوني، ومنذ ذلك الحين، بدت باريس وكأنها انكفأت، ولم تقدِم على أيّ حراك يصبّ في هذا المنحى.

لكنّ هناك محطتين اساسيّتين:

- الأولى، هي «المحطة الاميركية»، التي لم تسجّل ذاكرة اللبنانيين أنّ الاستحقاق الرئاسي اللبناني قد مرّ مرة في تاريخ العلاقة بين واشنطن وبيروت، بمعزل عنها ودون أن تقول كلمتها فيه، وبالتالي لا يستطيع الحريري إلّا أن يطرق بابها، ليجعلها تصفّق معه رئاسياً.

وحتى ولو طرق الحريري الباب الاميركي، فإنّ اليد الاميركية، وكما هو واضح للجميع، مشلولة أقلّه حتى شباط المقبل، أي الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، بعد نحو خمسة أشهر، وفي ظلّ «اللامبالاة» الاميركية في ما خصّ ملف لبنان، ليس هناك ما يضمن أو يؤكد ما إذا كان الملف الرئاسي اللبناني سيدخل قريباً في دائرة اهتمامات وأولويات الادارة الاميركية الجديدة.

- الثانية، هي المحطة السعودية، وهنا بيت القصيد، إذ على موقفها من الخيار العوني للحريري، يتوقف كلّ شيء. لكن حتى الآن ما زالت الكلمة السعودية «ضائعة»، ولا توجد أية مؤشرات من شأنها أن تطمئن الحريري، وتعطيه دفعاً لتوجّهه نحو ترشيح عون. لا بل إنّ الأصداء التي ترد من السعودية الى بيروت تشي بغير ذلك تماماً.

وأكثر من ذلك، بدأ الهمس يتصاعد في أوساط سياسية لبنانية على صلة مباشرة بالاستحقاق الرئاسي، وميزتها عن غيرها أنها على اطّلاع على وجهة البوصلة السعودية في هذه الفترة. ومفاد هذا الهمس بأنّ صورة الحريري مع عون في الرابية لم تبعث الإرتياح داخل المملكة، بل بعثت ما هو أكثر من امتعاض، وهذا الشعور السعودي قد يتمّ التعبير عنه صراحة، سواءٌ بشكل كلامي أو بـ»شكل آخر» في الآتي من الأيام.

من هنا، كانت «المحطة السعودية» وما تزال، هي الأساس في المشاورات الرئاسية (الداخلية والخارجية) للحريري، فهو يعوّل على أن يستحصل منها على ضوء أخضر - لا لبس فيه - للذهاب الى خيار عون، إلّا أنّ إضاءة هذا الضوء الأخضر ومنحه للحريري يبقيان رهناً بأمرين:

- الأول، أن تكون السعودية قد قرّرت فعلاً رفع «الفيتو» عن ترشيح عون لرئاسة الجمهورية. وهذا الأمر لم تبرز أيّ مؤشرات سعودية حوله. لا سراً ولا علناً ولا حتى بالإيماء والإيحاء.

- الثاني، أن تكون السعودية، قد قرّرت أن تدخل لبنان حالياً في جدول أولوياتها واهتماماتها والتي تقدمها على أيّ ملف آخر، والمحصورة حالياً في أزمة اليمن، والأزمة السورية، ناهيك عن العراق والبحرين وما حولهما.

أمام هذا الواقع الضبابي والمرتجّ، يرقد الملف الرئاسي مجدداً على رف الانتظار، ولمدى زمنيٍّ مفتوح، وذلك حتى يتبيّن الخيط الأبيض السعودي من الخيط الأسود..

وفي جوّ عدم الارتياح هذا، يبقى السؤال «هل سيزور الحريري السعودية لمشاوراتٍ رئاسية؟»

بالتأكيد أنّ حصول هذه الزيارة رهن بموعد يتحدّد له في المملكة. ولكن سيتحدّد هذا الموعد فعلاً. وإن فتحت السعودية بابها أمامه، فهل لمشاورات رئاسية أم لشيء آخر؟ .. الآتي من الأيام سيحمل الجواب اليقيني حتماً.

نبيل هيثم | الجمهورية