ما زال بعضهم يطارد خيط الدخان الذي ينبعث من واشنطن، معتقداً أن الحل يكمن هناك، متوهماً أن أميركا يمكن أن تقدّم له حلا، أن تسهم في انتشاله من واقعه المأزوم، تماماً كما طبل بعض العرب لباراك أوباما يوم دخل البيت الأبيض. يومها اعتقد هؤلاء أن الأميركي ذا الأصول الإفريقية الذي سيحكم أميركا سيتعاطف معهم، سيمنحهم حقوقاً لهم هضمت على مر التاريخ، واستغفلوا سذّج القوم بتنظيراتٍ لا طائل منها سوى زيادة المودة لأميركا والتقرّب لها والتودّد، ليتبين، بعد ثمانية أعوام من حكمه، أنه أسوأ رئيس أميركي على العرب وقضاياهم، وأنه أكثر رؤساء أميركا دعما لإسرائيل.
واليوم، وبينما حلب تحت نيران القصف الروسي الهمجي، ما زال بعضهم يعتقد أن لدى واشنطن الحل، يرفض أن يصدق، على الرغم من كل الأدلة، أنه لولا واشنطن، ما دخلت روسيا إلى سورية، وما وقفت مع الأسد ودعمته بكل صنوف الدعم العسكري والمالي. تلك سادتي سذاجة، ليس الساسة، فهؤلاء غسلنا أيدينا منهم، وإنما هي سذاجة المستثقفين، كتّاب الرأي، محللي الفضائيات الذين تناثروا كما يتناثر فطر الأرض وقت الربيع.
لا يمكن لعاقلٍ أن يصدّق أن روسيا دخلت سورية من دون إذن أميركي. دعك من كل الهراء الذي تسمعه يومياً على الفضائيات، والتراشق الإعلامي بين جون كيري وسيرغي لافروف. دعك من كل السماجة التي يتحدث بها بعضهم عن حربٍ كونيةٍ بين روسيا وأميركا تدور في سورية، من دون أن يكلف نفسه عناء البحث والاستقصاء البسيط في الواقع السوري، ليعرف أن مقابل الدعم العسكري الروسي الكبير للأسد، فإن أميركا لم تقدم سوى فتاتٍ لما تسمى المعارضة المعتدلة، وغالباً ما يكون هذا الفتات مرفقاً بمئة شرط وشرط.
عندما يقول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إنه لا يمكن إسقاط الأسد ونظامه إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهو الذي غزت دولته العراق عام 2003، من دون أي تشريع قانوني، أو تفويض من مجلس الأمن، فاعلم، يا رعاك الله، أنهم يضحكون علينا، لأننا شعوبٌ لديها ذاكرة سمكة.
إننا اليوم إزاء مرحلة جديدة من التاريخ مفصلية، لا تنفع معها المداراة أو تغليب المصالح الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة على مصلحة أمة. إننا إزاء انتقالةٍ سيقف عندها التاريخ طويلاً، فلا تنفع معها الأحاديث الناقصة، الأحاديث التي تجامل أو تحابي، الأحاديث التي تقول أنصاف الحقائق.
يجب أن تعلم الشعوب العربية أن خلاصها ليس بأميركا، فلا يمكن لأميركا التي احتلت العراق، بلا أي سند قانوني دولي، وهجرت وقتلت ملايين من أبنائه، أن تتحول اليوم إلى راع للسلام، وأن تتدخل لإنقاذ السوريين في حلب وغيرها من نيران الأسد وبوتين. لا يمكن لأميركا التي ساندت، أكثر من نصف قرن، الكيان المسخ في فلسطين، وتنكّرت لكل الحقوق العربية، أن تتحول حمامة سلام تمنع تهجير السوريين وقتلهم.
الجميع اليوم مطالبٌ بوقفةٍ حقيقية، تبدأ بعدم الركون أو التعويل على أميركا، ولا على دعمها، فواشنطن ستبقى وفيةً جدا لمصالحها، وأوفى أكثر لإسرائيل التي اخترعتها مع بريطانيا.
أميركا هي القاتل الأول، غضت الطرف عن كل شذّاذ الآفاق القادمين من العراق وإيران ولبنان للقتال إلى جانب بشار الأسد، هي قاتلنا الأول.
لم تختلف أميركا الأوبامية كثيراً بعد نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، مع دخول الساكن الجديد البيت الأبيض، قد تلطف بعض الأجواء، خدمةً لمصالحها طبعاً، لكنها ستبقى على السياسة الاستراتيجية نفسها التي ترسمها دوائر القرار. لذا، من الآن أقول: لا تتفاءلوا، فالقادم لن يكون أفضل.
ليس أمام الشعب السوري، وكل الشعوب العربية التواقة للانعتاق من نير أنظمة القتل والموت والاستبداد، إلا أن تعيد ترتيب نفسها، تبحث عن البدائل الأقرب، تبحث عن تركيا، عن السعودية، عن قطر، عن كل دولةٍ عربية أو مسلمة، تعتقد أنها يمكن أن تمد لها يد العون.
قلنا ونعيد ونكرّر إن المتدثّر بغطاء أميركا عريان. ولعلنا شاهدنا كيف تنكّرت أميركا للعربية السعودية، وأقرت قانون جاستا، من دون أدنى اعتبار ليس للعلاقة التاريخية بين البلدين وحسب، وإنما حتى للتحقيق الأميركي بشأن تفجيرات "11 سبتمبر"، والذي برأ العربية السعودية حكومة ومسؤولين من أي علاقة.
لعل من محاسن الثورات العربية، وما رافقها من قمع وقتل وموت وتواطؤ دولي على المستويات كافة، أنها كشفت كل العورات التي طالما تسترت بأغطيةٍ شتى، ومنها العلاقة مع أميركا، والاعتقاد الخاطئ بأنها صديقة للعرب، متناسين، بقصدٍ ودراية، أنها دولة مصالح، لا تعرف للصداقة معنىً، وأنها دولة احتلال واستعمار، طالما وقفت إلى جانب مصالحها، وإلى جانب الأنظمة المستبدة، طالما خدمت تلك المصالح.