عندما قررت تركيا العودة بقوة إلى المنطقة العربية، لم يكن الطريق سهلا أمامها، ولم تشفع لها العلاقات التاريخية ولا الدينية، ولا الواقع السياسي المضطرب والذي اعتقد حاكم البلاد، رجب طيب أردوغان، أنه فرصته ليحقق “فتوحاته” الخارجية بعدما نجح في السنوات العشر الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية في أن يجعل من تركيا قوة اقتصادية، لا ينقصها إلا الدور المحوري الإقليمي لتكون قوة دولية.
اصطدمت خطط أردوغان بموقف عربي وخليجي، هو ولئن رحب بتركيا الحليف الاقتصادي والثقافي والسياحي والجار الإقليمي الذي يتقاسم معه زمنا تاريخيا هاما، فقد رفض مساعي أردوغان للتدخل في شؤون دول المنطقة والعبث بنظمها السياسية، ليحاول الرئيس التركي حامل لواء العثمانيين الجدد على مدى السنوات الخمس الماضية اللعب على عدة جبهات أميركية وقطرية ومصرية (في عهد الإخوان)…، انتهت به إلى أن لا مجال لأي تحرّك أو دور بعيدا عن محور الأغلبية في المنطقة والذي تقوده المكلة العربية السعودية.
وقد تجلت هذه “القناعة” واضحة من خلال التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أدروغان خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة “روتانا خليجية”، تم بثها مساء الأحد، واستهلها بالحديث عن علاقة أنقرة بالرياض. وقد أخذ هذا الحديث حيزا هاما من الحوار، بما جعل المراقبين يطرحون سؤالا جوهريا مفاده هل أن أردوغان يريد أن يعيد تأهيل نفسه خليجيا أم أنها نفس المبادئ بمفردات مختلفة؟
العلاقات السعودية التركية
تأتي هذه المقابلة بعد زيارة هامة قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف وقبله وزير خارجية السعودية عادل الجبير إلى تركيا، ويقول الباحث السياسي التركي فائق بولوت لـ”العرب”، إن أردوغان يحاول أن يعزز علاقات تركيا مع الدول الخليجية وعبرها تعزيز علاقات حزبه الحاكم مع الدول العربية التي تربطه بها علاقات متنوعة بعضها جيد وبعضها عانى من علاقات دون المستوى المرغوب.
وقد انطلق الحوار من نقطتين رئيسيتين ركز عليهما أردوغان؛ قانون جاستا الأميركي الذي يستهدف المملكة العربية السعودية، وتصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف بأن “السعودية، والمنطق عموما، وتركيا مستهدفون ونحتاج إلى بعضنا البعض”. ووصف الرئيس التركي قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” الأميركي، المعروف اختصارا بـ”جاستا”، بأنه خطأ كبير، مشيرا إلى أن بلاده ستتعاون مع السعودية قانونيا لتقييم “هذا الخطأ الكبير” وتصحيحه.
واعتبر الخبراء أن أردوغان يضرب عصفورين بحجر واحد من خلال هذا الموقف، فهو من جهة يؤكّد وقوفه إلى جانب السعودية، ويحاول أن يستدرك مواقف وتوتر العلاقة بينهما من قبل، على غرار موقفه من عاصفة الحزم في اليمن، حين اكتفى بالتشجيع والثناء دون المشاركة فيها؛ ومن ناحية أخرى لن يفوت فرصة لينتقم من الولايات المتحدة الأميركية التي تشهد علاقتها به توترا خصوصا بعد انقلاب 15 يوليو 2016 الفاشل، الذي أدانته السعودية ودول الخليج، ويتهم أردوغان فتح الله غولن بالضلوع فيه، وقد طلب من الولايات المتحدة تسليمه له.
وأشار إلى لقائه بولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على هامش قمة العشرين، حيث تحدثا عن دعم العلاقات بين البلدين، وأيضا أشار إلى لقائه مع ولي العهد الأمير محمد بن نايف خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي تم خلاله الاتفاق على اللقاء الذي عقد في أنقرة مؤخرا.
فائق بولوت: تصريحات أردوغان تأتي كرسالة لتدعيم التقارب مع دول الخليج
وضع أردوغان بلاده في نفس خط الخطر مع بلدان المنطقة متحدّثا عن أن “هناك تطورات وقحة ضد العالم الإسلامي”. وقال إن “تركيا والسعودية مستهدفتان وكذلك دول أخرى مثل العراق وتونس وأفغانستان”، لافتا إلى أن “كافة المخططات موجهة للعالم الإسلامي وعلى بلداننا أن تتضامن، وإذا لم يحدث ذلك سوف نخسر الكثير وسيستمر النزيف كما يحدث في سوريا وحلب خصوصا”.
وزعم أن “تركيا ليست لها أهداف ولا تريد أن تكون ضمن الأمواج الامبريالية التي تجتاح المنطقة” وأن الحل يكمن في “تضامن بلدان العالم الإسلامي” لمواجهتها؛ وهي ليست المرة الأولى التي يروج فيها أردوغان لصورة تركيا باعتبارها حليفا رئيسيا في سياق تكوين محور سنّي قوي لمكافحة الإرهاب. ويستحضر المراقبون في هذا السياق موقف تركيا التي استقبلت ببرود مبادرة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتكوين تحالف إسلامي لمحاربة مختلف أشكال الإرهاب وأذرعه وميليشياته.
ويتوقع مراقبون أن يواصل الرئيس التركي سياسة إطلاق الوعود في الفترة المقبلة بشأن استعداد أنقرة للعب دور فعال مع السعودية في ما يجري في المنطقة، على أن يكون ذلك مجرد تصريحات لاسترضاء المملكة والحصول على دعم اقتصادي ودبلوماسي منها في مواجهة التطورات مع الأكراد والروس والأميركان، وخصوصا في الملف السوري الذي تشارك فيه مع السعودية نفس الموقف تقريبا، في ما يتعلق بنظام الأسد والضربات العسكرية الروسية المنسقة مع القوات الإيرانية والعراقية والتابعة لحزب الله اللبناني، ودعم المعارضة السورية.
وقد قال أردوغان في هذا الملف إن بلاده “تهدف إلى تطهير 5 آلاف كيلومتر شمالي سوريا من الإرهاب، لتكون منطقة آمنة يُحظر فيها الطيران”.
ولفت أردوغان إلى أنه لم يتطرق مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، خلال زيارته لأنقرة، والتي قلّده على إثرها أردوغان وسام الجمهورية، إلى موضوع تسليح المعارضة السورية المعتدلة بمضادات الطيران، لكنه أكد قوة علاقة السعودية مع تركيا، قائلا إن ” تقليد ولي العهد، وسام الجمهورية التركية، يأتي للتأكيد على مدى العلاقات والروابط بين الشعبين التركي والسعودي”.
وقال “لم نتطرق إلى هذا الموضوع ولكن في ما يتعلق بدعم وتأييد المعارضة المعتدلة نجد أن هناك تصريحات شديدة اللهجة، ونحن منذ البداية نقدم لها الدعم، ونولي أهمية كبيرة للدعم الذي نتوقعه لها من قطر والسعودية”.
ويرجع طيار آري، رئيس قسم العلاقات الدولية في كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية في جامعة أولوداغ التركية، “أحد أبرز أسباب تطور العلاقات بين أنقرة والرياض في الآونة الأخيرة، إلى التهديد الإيراني المتزايد في المنطقة”، مضيفا أن الموقف الإيراني والروسي إزاء ما يحصل في سوريا، والتوتر التركي مع الولايات المتحدة، يدفعان الطرفين إلى البحث عن قوة أخرى، وهذه القوة يمكن أن تستمدّ من “تعاون السعودية ومصر وتركيا”.
السياسة التركية موضع اختبار
ستكون المواقف التركية من المستجدات القادمة مقياس اختبار سعودي لتوجهات أردوغان المستقبلية وخصوصا الموقف من إيران، إذ لا ترغب السعودية في فتح جبهات ثانوية كما لم تزل سياسات أردوغان محل شكوك، فقد سبق له أن عرض تقديم الدعم لعاصفة الحزم التي شنها التحالف العربي على الحوثيين، داعيا إيران إلى الانسحاب من اليمن، ومتهما إياها بالسعي لوضع المنطقة تحت هيمنتها، لكنه زار طهران بعد مدة وتحدث عن حلّ سياسي للأزمة اليمنية ما أعطى الانطباع بأنه يقف إلى صف إيران وحلفائها في اليمن، ويريد حوارا يثبت مكاسبهم.
ويقول مراقبون إن تركيا لا تتحرك إلا سعيا وراء أهدافها، وبدروه يشير فائق بولوت إلى أن تصريحات أردوغان تأتي كرسالة لتدعيم التقارب مع الخليج ليس فقط سياسيا بل أيضا على مستوى تحسين العلاقات التجارية والاقتصادية وفتح الأسواق العربية والخليجية أمام المنتجات التركية وجذب المزيد من السياح إلى تركيا التي تمر بأزمة اقتصادية يتوقع أن تتفاقم بشكل خطير، حيث يعلم الأتراك أن السعودية ورجال أعمال خليجيين قد يسحبون استثماراتهم من الولايات المتحدة على خلفية قانون جاستا، لذلك يحاول أردوغان تشجيعهم على الدخول إلى تركيا وتوظيف أموالهم في مشاريع بديلة.
صحيفة العرب