يمكن القول إنّ حزب الله نجح، بتحالفاته اللبنانية حينا وبمفرده في معظم الأحيان، في إفشال وتقويض مشروع قوى 14 آذار، لا سيما في العنوان الأبرز الذي تمثل في عبارة “العبور إلى الدولة” بما هو انتقال من مرحلة الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية على لبنان، إلى مرحلة الدولة المستقلة. وكما هو معروف شكل اغتيال الرئيس رفيق الحريري الشرارة التي أطلقت ما سمي انتفاضة الاستقلال الثاني في العام 2005.
وطيلة عقد من الزمن نجح حزب الله، عبر سلاحه أو عبر حربي العام 2006 الإسرائيلية والعام 2012 السورية، في استخدام السلاح من أجل تعليق مشروع الدولة، وفرض ما يريد على الدولة والوطن عموما، أي بما يتلاءم مع نظام أولوياته المتصل بالمشروع الإيراني في المنطقة أو ما يسميه “محور المقاومة”. وهذا كما بات معروفاً كانت تقرره الحسابات الإيرانية في المنطقة ويتحرك على إيقاع الحوار الأميركي – الإيراني بعنوانه الأبرز: الملف النووي الإيراني، وضمنا الدور الإيراني في الإقليم.
في لبنان استطاع حزب الله إفشال مشروع الدولة وإضعاف القوى الداعية لهذا المشروع، بحيث بقي هذا المشروع، ولا يزال، معلقا. وشكّل المثال على ذلك الفراغ الرئاسي المستمر في هرم الدولة منذ منتصف العام 2014، بحيث منع حزب الله، وإن بذرائع طائفية أو حزبية، انتخاب رئيس للجمهورية. وتمترس طيلة هذه الفترة بموقف حليفه المرشح ميشال عون الذي أصرّ على حصرية ترشيحه للرئاسة باعتباره الممثل الأبرز للمسيحيين. وهي مسألة لا علاقة لها بالدستور، وليست شرطا في انتخاب رئيس الجمهورية، لكنّها ذريعة نجح حزب الله وحليفه عون في فرضها كأداة تعطيل من خلال منع اكتمال النصاب في أكثر من 40 جلسة نيابية.
اليوم سلّم كل خصوم حزب الله بتأييد مرشحه للرئاسة، ونجح العماد ميشال عون في إقناع الرئيس سعد الحريري بتليين موقفه. وأعلن الأخير انفتاحه على تأييد مرشح حزب الله، الذي كان منذ عامين وأكثر يقول بصلف للجميع “ليس أمامكم إلاّ انتخاب ميشال عون وإلاّ لا رئاسة جمهورية”. لكنّ المفارقة، أو ربما الحقيقة المرة التي برزت أخيرا، هي أنّ خصوم حزب الله أيّدوا الجنرال عون فيما حلفاء حزب الله رفضوا تأييده. وبدأت حملة ضد انتخاب عون من هذا الفريق الذي طالما وقف خلف حزب الله في كل المحطات السياسية الإستراتيجية ومنها رئاسة الجمهورية.
الرئيس نبيه بري أبرز المعترضين. هو الذي اشترط أن تقرّ جملة من العناوين السياسية الخلافية من قانون الانتخاب والاتفاق على البعض من الحقائب الوزارية الأساسية لا سيما ملف النفط، وغيره من الملفات، قبل انتخاب الرئيس. وهذا ما دفع البطريرك الماروني إلى وصف هذا الشرط بالإهانة التي “تعرّي” رئيس الجمهورية. إذ ليس هناك من شرط يوضع على الرئيس غير الدستور، لا سيما أنّ السلطة في هذه القضايا ليست في يد الرئيس وحده، بل لها آلياتها الدستورية والقانونية في الدولة.
جرى كل ذلك وحزب الله موغل في صمته. ففي حين كان يفترض أن يرفع أقواس النصر لأنّه أخضع خصومه إلى خياره ووافقوا على شروطه، بالغ في الصمت، وبدأ يسرب إلى وسائل الإعلام، وحتى إلى البعض من حلفائه، أنه لا يستطيع الضغط على الرئيس بري، داعيا للعودة إلى طاولة الحوار التي قاطعها حليفه عون، وإلى مجلس الوزراء الذي رفض حليفه نفسه المشاركة به بعدما رأى أنّ هذا المجلس لا يحترم الشريك المسيحي ويخلُّ بالميثاقية بين المسيحيين والمسلمين.
موقف حزب الله اليوم ينكشف على حقيقة أنّه لا يريد انتخاب رئيس للجمهورية، لا حليفه عون ولا غيره. مرشحه الفراغ الرئاسي، بمعنى أدق: الدولة المعلقة. هو حزب طالما أثبت أنّه ليس منسجما مع مشروع الدولة، ولا يتلاءم مع فكرة الانضواء ضمن قواعد الدستور وشروط الدولة. لذا حزب الله، في مساره منذ نشأته، كان يستطيع إفشال مشاريع الآخرين لكنّه ولا مرة قدّم مشروعا بديلا ومنافسا. هو طالما مارس لعبة انتقاد النظام السياسي وسياساته التنموية (رغم أنّه شريك) ولكن ولا مرة كان لديه مشروع للتنمية أو لأسس الدولة القوية، أو اقترح مشاريع اقتصادية لنهضة الدولة أو سياسات مالية، أو رؤى دستورية. استثمر دائما في فشل الآخرين وإفشالهم، ولم يقدّم أيّ بديل سوى الإمعان والمشاركة في إضعاف مشروع الدولة.
من هنا يمكن فهم موقف حزب الله بعدما خضع له الجميع على مستوى القوى السياسية، والدولة بكل مؤسساتها صارت رهن بنانه، ويستطيع أن يأتي بمن يشاء إلى أيّ موقع في الدولة. وهنا مكمن الداء والمفارقة في آن. عندما خضع له الجميع بدا حزب الله عاجزا، فهو فقد الخصم الذي طالما كان مشجبا يعلّق عليه ما يشاء من أزمات، وصار هو من يقرر وليس لديه أي تصور لكيفية إدارة الدولة التي تعاني من الضعف ومن الأزمات. هو لا يريد حمل تداعيات ما جنت يداه، ويبحث عمن يتحمل الأعباء إقليميا أو دوليا، لكنّ أحـدا لا يعيـره اهتماما، ذلك أن التجارب الماضية بات تكرارها مهزلة أكثر ممـا هي خطأ سياسي. إذ لطالما نجدت السعودية ودول الخليج ماليا، على أمل أن تقوم الدولة ويتعزز مشروعها، لكن ذلك كان دائما يتم استثماره من قبل حزب الله كطاقة وغطاء لإضعاف الدولة وتهميشها، وشكل الشريك الإقليمي العربي لإيران في لبنان عنوانا لتحميله تبعات الفشل.
حزب الله يغالبه الإرباك اليوم، والعجز رغم القوة التي يدعيها. هو عاجز عن اتخاذ القرار في الرئاسة، ليس لديه ما يقوله للبنانيين غير أنه يواجه الإرهاب والتكفيريين، يتبجح بسلاحه الإقليمي، وقدراته، فيما هو في بلد عاجز عن حلّ مشكلة النفايات حتى لا نقول انتخاب رئيس للجمهورية.
حزب الله يريد خصما وعدوا إذ ليس في قاموسه ما يسمى طموح بناء الدول والصداقات. هو آلة للقتال، وللقتال الإيراني ليس سواه. حتى هو لا يستطيع أن يكون آلة قتال من أجل لبنان ومن أجل سيادة الدولة ووحدتها. اللبنانيون مستاؤون من إدارة المملكة العربية السعودية الظهر للبنان، لكن يدرك العديد من المراقبين أنّ هذه الخطوة التي أساءت للبنان ودفعته أكثر نحو المحور الإيراني، كشفت أيضاً عجزا إيرانيا عن حكم لبنان الذي لا يستطيع الاستمرار والعيش خارج حضنه العربي. هذا ما يكتشفه حزب الله اليوم في العمق الاستراتيجي، ويقف عاجزا إلاّ عن متابعة استنزاف الدولة والانهيار من دون أن يكون لديه أيّ بديل قابل للحياة.