يعود الاهتمام الإيراني بالقارة الأفريقية إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبالتحديد إلى فترة حكم الشاه، عندما شرعت في إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأفريقية. وكانت هذه العلاقات في إطار النسق العام للوضع الدولي والإقليمي آنذاك، فكانت إيران تلعب دور شرطي الولايات المتحدة في المنطقة، بحسب ما ذكر خبير الشؤون العربية والدولية، الدكتور السيد عوض عثمان، في كتابه "النفوذ الإيراني الناعم في أفريقيا".

بعد الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه، وصعود التيار الإسلامي إلى سدة الحكم، تراجع الاهتمام بأفريقيا بعض الشيء، بسبب انشغال النظام الجديد في ترتيب أوضاع البيت من الداخل وترسيخ دعائم حكمه. واستمر هذا الوضع إلى ما بعد انتهاء الحرب الإيرانية مع العراق، وبعد أن تم له ما أراد، عاود النظام الاهتمام بالقارة السمراء مرة أخرى وفق نسق من السياسات الاقتصادية والإيديولوجية والتخطيط الإستراتيجي، وضعه قادة النظام الجديد، ابتداءً من هاشمي رافسنجاني، وتمكنت إيران بالفعل من تحقيق اختراق كبير للقارة الأفريقية.

خارطة نفوذ إيران في أفريقيا

يمكن تقسيم خارطة النفوذ الإيراني في أفريقيا من الناحية الجغرافية، إلى علاقات مع منطقة "الحزام الإسلامي غربي أفريقيا". ويقصد بإقليم غرب أفريقيا المنطقة الجغرافية التي تمتد من موريتانيا غرباً حتى النيجر شرقاً، ومن موريتانيا شمالاً حتى ليبيريا جنوباً ومنها حتى نيجيريا.

استفادت إيران من خصائص هذا الإقليم لتدعيم علاقاتها مع دوله، وعلى رأسها أنه يمثل كتلة إسلامية في القارة الأفريقية، نظراً لأن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي لغالبية السكان. وقد شكلت هذه التركيبة السكانية بيئة خصبة لنشر التشيع.

والمنطقة الجغرافية الأفريقية الثانية للنفوذ الإيراني هي منطقة "حوض النيل وشرق أفريقيا"، وعن طريق هذه المنطقة، تمكنت إيران باستخدام مصطلح "الجهاد البحري" من نقل المعركة من مضيق هرمز والخليج العربي، إلى منطقة القرن الأفريقي وخليج عدن وباب المندب بين إريتريا واليمن، والذي يعتبر أضيق ممر في خليج عدن، من خلال إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري.

والجهاد البحري هو إستراتيجية إيرانية، تعني انتهاج سياسات تمكن الدولة من السيطرة أو التواجد القوي بالقرب من  الممرات الملاحية، تحسباً لأي مواجهة عسكرية تهدد مصالحها. بالإضافة إلى فتح ممرات بحرية وبرية، تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط، عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق للمساومة في الشرق الأوسط. وتمثل هذا الأمر في الاهتمام الإيراني بالسودان، من أجل الوجود القوي في البحر الأحمر، كما عززت علاقاتها أيضاً مع إريتريا وجيبوتي واليمن.

والمنطقة الجغرافية الثالثة هي مناطق جنوب وشمال أفريقيا، ويذهب الدكتور السيد عوض عثمان إلى أن إيران استغلت الأقلية المسلمة في جنوب أفريقيا، بسبب قوتها الاقتصادية ودورها في نمو الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى ميل الأقلية للدور الإيراني في مواجهة الصهيونية. كما ترى إيران أن جنوب أفريقيا أقوى اقتصاد أفريقي وبوابة أفريقيا السياسية إلى العالم، خصوصاً بعد تحالفها مع الهند والبرازيل.

وفي الشمال الأفريقي ارتكزت إيران على الغالبية الإسلامية لسكان دول شمال أفريقيا، وتعتبر الجزائر نقطة ارتكاز الحضور الإيراني في دول المغرب العربي، رغم ما شابها من توترات.


أدوات التغلغل الإيراني في أفريقيا

انتهجت إيران مجموعة من السياسات الرخوة، التي ساعدت على التوغل في أفريقيا، من بينها تقديم مساعدات تنموية في مجالات التكنولوجيا، ومجالات الطاقة والتنقيب عن البترول والاستكشافات البترولية، وصيانة معامل تكرير النفط، والصناعات البتروكيماوية والغاز، وتنمية القطاعات الزراعية والصحية وإنشاء السدود، بالإضافة إلى تصدير النفط لبلدان القارة الأفريقية بأسعار رخيصة مقارنة بالسوق العالمي.

وأسهمت تلك السياسات في نمو التبادل التجاري بين إيران والدول الأفريقية، فذكر سفير جنوب أفريقيا لدى إيران، ويليام مكس وايت هيد، أن التبادل التجاري بين إيران وبلاده وصل إلى 2 مليار دولار. مشيراً إلى أن مصافي جنوب إفريقيا بنيت على يد إيران وأن 70% من نفط بلاده يتم استيراده من إيران. وقد ارتفعت قيمة صادرات النفط الإيراني لإفريقيا من 1.3 مليار دولار عام 2003، إلى 3.6 مليارات دولار عام 2012.

وبين 2003 و 2008، تضاعف حجم الصادرات الإيرانية لأفريقيا 5 مرات مقارنة بالسنوات الخمس التي سبقتها. وبلغ حجم الصادرات الإيرانية لأفريقيا عام 2001 نحو 90 مليون دولار، بينما وصلت إلى 291 مليون دولار عام 2008.

الأداة الدينية والمذهبية

الأداة الثانية التي استخدمتها إيران للتوغل في أفريقيا هي الأداة الدينية المتمثلة في نشر التشيع. ففي الأول من يونيو الماضي، نقلت وكالة فارس الإيرانية عن نائب زعيم المسلمين في نيجيريا الشيخ، اسماعيل شعب، قوله إن نحو 20 مليون نيجيري اعتنقوا مذهب أهل البيت. مشيراً إلى أن هذا الأمر جاء نتيجة جهود الشيخ إبراهيم الزكزاكي.

والزكزاكي هو رئيس الحركة الإسلامية في نيجيريا، ولد في مايو عام 1953 بمدينة زاريا، وبعد تلقيه العلوم الدينية، أصبح من أبرز قادة تنظيم حزب الله النيجيري.

وتكشف البيانات المجدولة التي نشرها موقع World Shia Muslims Population حجم انتشار المذهب الشيعي في بلدان القارة الأفريقية، بينما تشير إحصائيات نشرتها مواقع شيعية أخرى، إلى أن عدد الشيعة في إقليم غرب أفريقيا بلغ نحو 7 ملايين.

 

ويذكر كتاب "النفوذ الإيراني الناعم في أفريقيا" أن الشيعة في غرب أفريقيا يمدون حزب الله اللبناني بنحو 200 مليون دولار سنوياً، وهو دعم يأتيه من الشيعة اللبنانيين الذين هاجروا واستقروا في أفريقيا، وشكلوا روافد لنشر التشيع في أفريقيا.

وفي سبيل نشر التشيع داخل الدول الأفريقية، عمدت إيران إلى إنشاء استقطاب القيادات الإسلامية المؤثرة في الدول الأفريقية، مثلما حدث مع الشيخ الزكزاكي في نيجيريا، وبناء مؤسسات تعليمية ودعوية ومطبوعات صحافية، مهمتها نشر المذهب الشيعي مثل المركز الاجتماعي الإسلامي، ونادي الرسول، وجمعية الهدى الخيرية، والمستوصف الإسلامي في السنغال، والمركز الثقافي الإيراني في مالي، ومجمع شباب أهل البيت في كينيا، والعديد من المؤسسات الشيعية في السودان.

الأداة العسكرية

الأداة الثالثة التي تستخدمها إيران في التوغل داخل أفريقيا هي الأداة العسكرية، المتمثلة في الإمداد بالسلاح والتدريب وغير ذلك. وبحسب خبير الشؤون الأفريقية، الدكتور أيمن شبانة، في دراسة نشرها المركز الإقليمي للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، فإن الأداة العسكرية يأتي في مقدمها صادرات السلاح والذخيرة وقطع الغيار، وتقديم خدمات التدريب العسكري. مشيراً إلى أن الطابع السري يغلب على استخدام هذه الأدوات، بسبب ما تثيره من حساسيات، خصوصاً بالنسبة لدول الخليج العربي. لافتاً إلى أن السودان من أهم الدول التي استفادت في مرحلة معينة من هذا الجانب.
ومن جوانب التعاون العسكري بين السودان وإيران، مجمع مصانع اليرموك للصناعات العسكرية بالقرب من الخرطوم، والذي تعرض للقصف من قبل الطائرات الإسرائيلية عام 2012. وبحسب مركز الناطور للدراسات الاستراتيجية فإن هذا المصنع كان معداً ليكون خط إنتاج الاحتياطي الإستراتيجي الإيراني من الصواريخ، في حال دخولها أي مواجهة عسكرية، في مقابل حصول الجيش السوداني على صواريخ من طراز شهاب.
ويشير تقرير ميداني نشره "مركز بحوث تسليح الصراعات" تحت عنوان Distribiution of Iranian Ammunition in Africa وغطى الفترة من 2006 إلى 2012، إلى وجود نحو 14 حالة، تم العثور فيها على أسلحة إيرانية في مناطق نزاعات داخل القارة السمراء، من بينها 4 حالات فقط مع الحكومات، بينما العشر الباقية كانت مع جماعات مسلحة غير نظامية مثل حركة كاسامانس الانفصالية في السنغال، والمتمردين في ساحل العاج، وزامبيا، وحركة ابراهيم الزكزاكي في نيجيريا، ما أدى إلى توتر العلاقات بين إيران وبعض الدول الأفريقية.
كما كشفت شبكة "Fox news" الأمريكية عن وجود أنشطة لشبكة تهريب أسلحة إيرانية تدعى الوحدة 190 تضم نحو 24 شخصاً، وتقوم بتهريب الأسلحة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى واليمن، ويقود هذه الوحدة بهنام شهرياري، الذي ولد في إيران عام 1968.
المكاسب الإيرانية من التوغل في أفريقيا

يشير خبير الشؤون الأفريقية، الدكتور أيمن شبانة، إلى أن إيران حققت العديد من المكاسب السياسية والاستراتيجية بسبب "التأثير التعاضدي للخطاب السياسي الإيراني والتوظيف المتكامل لأدوات السياسة الخارجية". وأوضح أن أبرز هذه المكاسب، مساعدة إيران على الخروج من العزلة الدولية والإقليمية. بالإضافة إلى ضمان تصويت الدول الأفريقية لمصلحتها في العديد من الملفات أمام المحافل الدولية، أو على الأقل امتناعهم عن التصويت، خصوصاً بالنسبة إلى مسائل حقوق الإنسان والملف النووي. بالإضافة إلى زيادة حجم التجارة والاستثمارات الإيرانية في القارة، واعتبار بعض الدول الأفريقية مخزوناً إستراتيجياً لليورانيوم الخاص بالبرنامج النووي الإيراني.
وضرب شبانة مثالاً على ذلك، من خلال تحفظ جميع دول غرب إفريقيا، عدا ليبيريا وتوغو، على قرار الأمم المتحدة الخاص بانتهاك حقوق الإنسان خلال الانتخابات الرئاسية الإيرانية لعام 2009، وإصدار معظم الدول الأفريقية تصريحات تؤكد تأييدها لحق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية.
تحديات إيرانية

الدور الإيراني في أفريقيا رغم ما كتب له من نجاحات، أصبح يواجه العديد من التحديات خلال السنوات الماضية، أبرزها عدم وفاء طهران بالكثير من التزاماتها الاقتصادية تجاه بعض الدول الأفريقية. وظهرت هذه الحالة جلياً في الوضع السوداني، فأصبحت السعودية أكبر مستثمر في السودان، وتدهورت العلاقات بين طهران والخرطوم.
كما شكلت الضغوط الدولية الرامية إلى تحجيم النفوذ الإيراني في أفريقيا تحدياً جديداً في مواجهة التوغل الإيراني، ما كشفت عنه خطوة إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، ومشاركة بعض الدول الأفريقية في عملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، وتأييد دول أخرى مثل موريتانيا والسنغال للعملية، بالإضافة إلى قطع السودان وجزر القمر علاقاتها مع إيران على خلفية أزمة حرق السفارة السعودية بطهران.
ولعب عنصر المخاوف السنية من نشر التشيع دوراً مهماً في الوقوف بوجه التوغل الإيراني، ما اتضح جلياً في حالة المملكة المغربية، التي توترت علاقاتها مع طهران بعد اتهامات للأخيرة بمحاولة نشر التشيع في المملكة. بالإضافة إلى توتر العلاقات مع نيجيريا بسبب اتهامات لطهران بدعم حركة الزكزاكي الأصولية، واتهامات أخرى بدعم حركات انفصالية مثل كاسامانس في السنغال. وهذا ما دفع دولاً سنية إلى الدخول بثقل في أفريقيا لمواجهة النفوذ الإيراني هناك، وعلى رأس هذه الدول، السعودية وبعض الدول الخليجية ومصر عبر بعثات الأزهر.

رصيف 22