على وقع عبور طائرات روسية، آتية من إيران، الأراضي العراقية باتجاه سورية، كانت قوات النظام تستحضر نماذج داريا وحي الوعر الحمصي وغيرهما من المناطق والمدن السورية، لفرض خيار استسلامي على الأحياء الشرقية في حلب، وذلك بعد دعوة جيش النظام، أمس الأحد، عبر وكالة الأنباء السورية "سانا"، جميع المسلحين "في الأحياء الشرقية من حلب إلى المغادرة، مع تأكيد ضمان الخروج الآمن لهم". ويبدو أن الحراك الأخير لقوات النظام ومجازر الإبادة المستمرة منذ أسبوعين، مضافاً إليه الضوء الأخضر الأميركي غير المباشر، إثر التسجيلات الصوتية التي انتشرت يوم الجمعة، وأظهرت وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهو يقرّ بعجز بلاده عن وقف مجازر الروس وقوات النظام، فتحت المجال للروس ولدمشق لمحاولة استنساخ اتفاقات الاستسلام على حلب الشرقية، على غرار الوعر وداريا والمعضمية والزبداني وغيرها الكثير قبلها.
في هذا السياق، لم تهدأ غارات الطيران الروسي، ومقاتلات تابعة للنظام السوري، على الأحياء التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، شرقي مدينة حلب، في ظلّ مقتل العديد من المدنيين، وتدمير ما بقي في هذه الأحياء من مراكز طبية، وتوسيع مناطق سيطرة قوات النظام، في الوقت الذي تؤكد فيه المعارضة أن ما يجري في حلب "هو كارثة حقيقية".
وتتعرّض حلب منذ انهيار اتفاق هدنة هش في 22 سبتمبر/أيلول الماضي إلى حملة عسكرية دموية، تهدف إلى إخضاع الأحياء التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد منذ منتصف عام 2012، وقد قُتل وأُصيب الآلاف من المدنيين، كما سُويّت أبنية كاملة بمن فيها من عائلات بالأرض، ودُمّرت مستشفيات، آخرها مستشفى الصاخور الميداني، الذي خرج عن الخدمة يوم السبت، بعد استهدافه من قبل مقاتلات حربية روسية، فضلاً عن مستشفى شوقي هلال في حلب القديمة، كما تؤكد منظمات طبية دولية أن المرافق الطبية في شرق حلب على وشك "التدمير الكامل".
 
وتحاول قوات النظام ومليشيات تساندها، استغلال الحملة الجوية المتواصلة من دون توقف، في سبيل تحقيق مكاسب على الأرض، لتوسيع دائرة سيطرتها في حلب، في محاولة لمنع المعارضة من القيام بعملية عسكرية، رداً على المجازر، ولكسر طوق الحصار عن شرق حلب.
 
وسيطرت قوات النظام، أمس الأحد، على مواقع جديدة في محيط طريق الكاستيلو، شمال حلب، منها معامل الشقيف، إثر معارك استمرت لساعات مع قوات المعارضة. وذكر ناشطون أن القصف الجوي المكثف أجبر فصائل المعارضة على الانسحاب من المنطقة، التي تقع شمال شرقي حي الشيخ مقصود، الذي تسيطر عليه الوحدات الكردية المتهمة بالتنسيق الدائم مع قوات النظام.
كما بدأت معارك في حي بستان الباشا الواقع بالقرب من الشقيف، في الوقت الذي اندلعت فيه اشتباكات جنوب حلب، في منطقة الشيخ سعيد، حيث تحاول قوات النظام مهاجمة مواقع المعارضة في محيط طريق الراموسة، لانتزاع السيطرة مرة أخرى على مواقع خسرتها، إبان هجوم المعارضة الكبير جنوبي حلب أواخر شهر أغسطس/آب الماضي، وهو هجوم سيطرت من خلاله المعارضة على مواقع عسكرية استراتيجية لقوات الأسد والمليشيات، منها الكليات العسكرية، قبل أن تنتزع قوات الأسد السيطرة عليها من فصائل جيش الفتح، التابع للمعارضة.
 
وكانت قوات النظام ومليشيات تتبع لها، ومنها لواء "القدس"، قد سيطرت يوم الخميس، على مخيم حندرات، بعد معارك مع فصائل "الجيش السوري الحر". ولم تنجح الجهود والإدانات المتلاحقة، و"دبلوماسية التصريحات" من قبل دول غربية، ومنظمات دولية، في إيقاف الطائرات الروسية، وتلك التابعة لنظام الأسد، عن حصد أرواح العشرات من المدنيين يومياً في كبرى مدن الشمال السوري.
 
وفي هذا الإطار، تنصب جهود الدبلوماسية الفرنسية على تقديم مشروع قرار بشأن الوضع الإنساني في حلب إلى مجلس الأمن، اليوم الإثنين، وتؤكد مصادر إعلامية أن موسكو لم تبد اعتراضاً على نص القرار في أثناء جلسة نقاش أولية حوله. ويدعو مشروع القرار إلى إعادة العمل باتفاق الهدنة بين روسيا والولايات المتحدة، لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى آلاف المحاصرين في حلب، ووقف الطلعات الجوية للطيران الحربي فوق المدينة. وكانت موسكو قد رفضت، أواخر الشهر الماضي، اقتراح هدنة لسبعة أيام تقدمت به واشنطن، مقترحة "هدنة إنسانية" لمدة 48 ساعة.
 
وتبدو المعارضة السياسية السورية مكبلة اليدين، وقد ظهر ذلك من خلال تأكيد المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة، رياض حجاب، يوم السبت، أن "ما يجري في حلب كارثة حقيقية، هي جزء من الكارثة الكبرى، التي يعيشها الشعب السوري". وذكر حجاب في بيان أنه تحادث هاتفياً مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وقال له إن "استخدام النظام والطيران الروسي للأسلحة المحرمة دولياً من قنابل خارقة وحارقة وارتجاجية وعنقودية فوسفورية، دليل صارخ على عدم احترام روسيا للقوانين والاتفاقيات الدولية التي هي طرف فيها، بل تمردها وتحديها السافر لقرارات الأمم المتحدة والتزاماتها المفروضة عليها بموجب القانون الدولي". وأشار المكتب الإعلامي لحجاب إلى أن "كيري أكد خلال الاتصال عزم بلاده على الاستمرار في استكشاف مدى صدقية روسيا والتزامها بتعهداتها، التي دخلت طرفاً فيها، والسعي الجاد إلى إيقاف القصف العشوائي على المدنيين وإنجاز وقف إطلاق نار يسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق في سورية". وطالب حجاب بـ "تعزيز قدرات فصائل الجيش الحر، للوقوف في وجه كل تلك المخططات الخبيثة، وحماية المدنيين من همجية وعدوان النظام وحلفائه، ومحاربة التطرّف والإرهاب والسعي الجاد إلى التوصل إلى وقف إطلاق نار يشمل جميع الأراضي السورية".
وتجتمع الهيئة العليا للمفاوضات مجدداً في مقرها بالعاصمة السعودية الرياض، يومي الخميس والجمعة المقبلين، وهي مثقلة بالعديد من الملفات السياسية، والعسكرية، والإغاثية في ظل انسداد الآفاق أمام انفراجات محتملة، تحديداً بعد تلميح كيري، في تسجيلات صوتية نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية يوم الجمعة، أن بلاده فعلت كل ما يمكنها فعله من أجل حلّ القضية السورية، مبرراً تخلّيه عن الشعب السوري بالقول إن "واشنطن لا تملك حجة قانونية للتدخل عسكرياً في سورية". واقترح على المعارضة السورية المشاركة في انتخابات تشمل الأسد، متناسياً تأكيدات الرئيس، باراك أوباما، منذ منتصف عام 2011، على أن الأسد "فقد شرعيته"، وعليه التنحي عن السلطة.
 
وجاء التحذير الروسي من عواقب أي "عدوان أميركي مباشر" على نظام الأسد، وتأكيده أن ذلك "سيؤدي إلى تغييرات مخيفة، ومزلزلة في الشرق الأوسط"، كي يدفع القضية السورية إلى تعقيد لا تتوقع مصادر في الائتلاف الوطني السوري تفكيك خيوطه المتشابكة في ظل إدارة أوباما، مشيرة إلى أن "خيار المعارضة السورية الآن الصمود، بعد أن تركتها إدارة أوباما وحيدة أمام الهجمة الروسية غير المسبوقة، حتى مجيء إدارة أميركية تكون قادرة على لجم التوحش الروسي"، وفق المصادر. وذلك على الرغم من إعلان وزارة الخارجية الروسية، أمس، أن "وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ونظيره الأميركي، جون كيري، ناقشا في محادثة هاتفية تطبيع الوضع في مدينة حلب".
 
من جهته، يرى نائب المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، يحيى القضماني، أن "الظروف التي تمرّ بها القضية السورية صعبة جداً"، مشيراً في تصريحات لـ "العربي الجديد"، إلى أن "الأمر مفتوح على جميع الاحتمالات، وأمام أوباما فرصة أخيرة قبل أن يغادر البيت الأبيض لمنع ظهور اتحاد سوفييتي جديد، ويبرئ ذمته حيال أرواح السوريين، التي أزهقت بتجاوز النظام خطوطه الحمراء التي أعلنها مراراً، ولم يفعل شيئاً إزاءها".