يقول عدد من السياسيين اللبنانيين الذين يواكبون اندفاعة زعيم تيار «المستقبل» الرئيس سعد الحريري في اتجاه رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، في سياق لجوئه إلـــى الخيارات المفتوحة، ومنها احتــــمال تأييده لرئاسة الجمهورية، إن ما يتطلع إليه هو إخراج البلد من «الإدمان» على إمكان التكيف مع استمرار الشغور في سدة الرئاسة الأولى لما يترتب على ذلك من أضرار فادحة يمكن أن تسرع في تفكيك لبنان وتعطيل جميع مؤسساته الدستورية، وصولاً إلى انحلاله وضياعه في ظل عدم التفات المجتمع الدولي إليه، لانشغاله بالحرائق المشتعلة من حوله.
ويؤكد هؤلاء أن اندفاعة الحريري في اتجاه عون لا تعني أبداً أنه حسم قراره وتخلى عن دعم ترشيح زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية. ويعزون السبب إلى حرصه على عدم التفريط بعلاقاته مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط، الموجود حالياً في باريس، والنواب المستقلين في «قوى 14 آذار».
ويضيفون أن الحريري لن يخطو خطوة يفهم منها أنه اتخذ قراره بدعم ترشح عون لرئاسة الجمهورية، في منأى من التفاهم مع الرئيس بري وجنبلاط، وهذا ما أكده في لقاءاته طوال الأسبوع الماضي، قبل أن يتوجه إلى المملكة العربية السعودية في زيارة خاصة، في محاولة لإعادة إخراج المأزق الرئاسي من الشغور القاتل.
ويلفت السياسيون أنفسهم النظر إلى أن هناك من يحاول التعامل مع اجتماع الحريري مع عون من زاوية أن الحريري حسم أمره وقرر المضي في تأييده، ويؤكدون أن ضخ جرعة من التفاؤل على هذا اللقاء والتصرف وكأن لا عودة عن قراره ليسا في محلهما، خصوصاً أن زعيم «المستقبل» سيعود إلى التشاور مع كتلته النيابية واستمزاج رأي جمهوره، وبالتالي لن يتفرد في حسم موقفه من دون حلفائه الذين لا يعترضون على حواره وانفتاحه في اتجاه عون، لكنهم ليسوا مع الذين ينظرون إلى تواصله هذا على أنه اندفع في الدفاع عن قراره ولن يأخذ بنصائحهم.
ويؤكد هؤلاء أن من الخطأ المميت تقديم الحريري في حواره مع عون على أنه يركض وراء عودته إلى رئاسة الحكومة بأي ثمن ولو كانت على حساب اتفاق الطائف. ويعزون السبب إلى أنه من غير الجائز المنّ عليه بأن «الجنرال» هو من يعيده إلى رئاسة الحكومة، لا سيمـــا أنه يتزعم أكبر كتلة نيابية ولديه حضور فوق العادة في الحيـــاة السياسية ويعتبر من أقوى الزعماء السنّة في لبنان، وأن لا منافـــس له، وأن البديل عنه تشجيع التطرف والتشدد في الشارع السني على حساب الحفاظ على الاعتدال وتدعيمه وتحصينه باعتباره يشكل رأس حربة في مواجهة المتطرفين.
ويسأل هؤلاء عن الدوافع التي تحمل البعض على «تهبيط الحيطان» على الحريري، تارة بتصويره معطلاً وحيداً لانتخاب رئيس جديد، وأخرى بأن لا مجال لعودته إلى رئاسة الحكومة إلا من خلال الممر الإجباري، استرضاء عون.
... وماذا عن «حزب الله»
كما يسألون هل أن عون وحده من يقرر من سيكون رئيس الحكومة العتيد، وبالتالي فإن إيران من خلال حليفها «حزب الله» لن تحرك ساكناً وتبصم على ما يرسمه عون في مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس؟ وإلا لماذا توجهت أمس الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ إلى طهران للقاء حسين جابري أنصاري مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية بالنيابة عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف لوجوده خارج البلاد؟
ويؤكد هؤلاء أن لزيارة كاغ طهران في هذا التوقيت علاقة مباشرة بإنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية والطلب من القيادة الإيرانية المساعدة في تسهيل انتخاب الرئيس. وهي كانت زارتها في وقت سابق من دون أن تحقق أي تقدم، إذ تذرعت طهران بأن انتخابه شأن لبناني ولا تتدخل فيه وتترك للأطراف المحليين حق التقرير في هذا الاستحقاق.
ويكشف السياسيون أنفسهم أن حلفاء الحريري كانوا ناقشوا معه ضرورة الحصول على ضمانات تتعلق بالعناوين الكبرى التي ما زالت عالقة وتستعصي عليها الحلول، لأن عون ليس من يؤمنها من دون أن يكون لديه غطاء سياسي من «حزب الله» وامتداد من إيران والنظام في سورية لئلا يأتي لاحقاً ويقول إن المشكلة في الحزب «وما عليك إلا التواصل معه».
ويقول هؤلاء إن الحريري لن يندفع في أي خيار سياسي في اتجاه عون على بياض، لأنه ليس في وارد التفريط بعلاقته مع حلفائه وأصدقائه في مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة.
ويضيفون أن الحريري، وإن كان يتهيب اللجوء إلى الخيارات المفتوحة، فإنه في المقابل لن يسمح في أي حال من الأحوال بأن توجه التهمة إلى حلفائه بأنهم كانوا وراء إعاقة وصول عون إلى الرئاسة الأولى، وتحديداً إلى بري وجنبلاط، في محاولة مدروسة من خصومه لضرب علاقته بهما وللإيحاء بأن هناك مشكلة في الشارع الإسلامي كانت السبب الوحيد الذي منع إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
موجة تفاؤل مصطنعة
ويؤكد هؤلاء أيضاً أن الحريري الذي لن ينجر إلى مشكلة مجانية مع بري جنبلاط يأخذ في الاعتبار ضرورة الرد على من يحاول أن يقول إنه عجز عن إقناع كتلته وشارعه في تبني ترشيح عون بهدف رمي المسؤولية على الكتلة، ولاحقاً ربما على السعودية، بذريعة أنها ضغطت لمنعه من سلوك مثل هذا الخيار.
ويعتبرون أن بعض فريق عون يحاول أن يضخ منذ انتهاء اجتماعه مع الحريري موجة من التفاؤل المصطنع ليكون في وسعه التحضير لعدة الشغل للهجوم على حلفاء الحريري أو الغمز من قنواتهم.
وبالنسبة إلى موقف بري من ضرورة التوافق على سلة سياسية متكاملة يكون على رأسها رئيس الجمهورية العتيد، يقول السياسيون أنفسهم إن لبنان يمر في ظروف استثنائية بالغة الخطورة والتعقيد ناجمة عن التمديد للشغور في الرئاسة الأولى وهذا يتطلب التوافق على توفير شبكة أمان سياسية لئلا ينتخب الرئيس من دون أن ينسحب انتخابه على تذليل العقبات لقيام حكومة غير تقليدية لا تبقى كما الحالية أسيرة التعطيل والشلل.
ويتابع هؤلاء أن لبنان ليس في حاجة إلى توافق على العناوين الخلافية الكبرى لو أنه يمر في ظروف عادية ينتخب فيها الرئيس في موعده الدستوري ويجري مشاورات نيابية ملزمة لاختيار رئيس حكومة جديد يتولى التشاور مع البرلمان لتشكيل حكومته، لكن في ظل هذه الظروف لا بد من تدعيم الآليات الدستورية بشبكة أمان سياسية، وإلا ما العمل في حال تم انتخاب الرئيس ومن ثم تسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة من دون أن يتمكن الأخير من تجاوز قطوع تبادل الشروط المضادة حول توزيع الحقائب ومضمون البيان السياسي.
لذلك، يتربع الرئيس المنتخب على سدة الرئاسة ويبقى رئيس الحكومة حائراً من دون أن يوفق في إيجاد المخارج للمشاكل المترتبة على التأليف وبالتالي يكون البلد أمام مرحلة جديدة من التعطيل والشلل، خصوصاً أن التجارب الأخيرة في تشكيل الحكومة لم تكن مشجعة أبداً، حتى بالنسبة إلى حكومة اللون الواحد التي تزعمها الرئيس نجيب ميقاتي بعد إطاحة الحريري من رئاسة الحكومة.
وفي هذا السياق، يقول السياسيون إن عدم وجود وضوح الحد الأدنى حيال مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس سيدخل البلد في نفق مظلم، ولا أحد يستطيع أن يتكهن إلى أين سينتهي انسداد الأفق ومتى؟ لا سيما أن تجارب التعاون مع «تكتل التغيير» في حكومة الرئيس تمام سلام لم تكن مشجعة، ولا يزال المسؤولَ الأول عن العطب السياسي الدائم الذي أصابها نتيجة تعطيل انعقاد جلسات مجلس الوزراء مع أنه ممثَّل في الحكومة بثلاثة وزراء. فكيف سيكون عليه الوضع في ظل وجود عون في سدة الرئاسة؟
معضلة تأليف الحكومة
ويسأل هؤلاء أيضاً: «كيف سيكون حال رئيس الحكومة بعد التكليف؟ وهل سيجد الطريق معبداً لتأليف الحكومة؟». ويقولون إن «حزب الله» قد لا يمانع تكليفه ولو قرر عدم تسمية الحريري رئيساً على سبيل المثال، لكن ماذا بالنسبة إلى التأليف؟ وهل أن قانون الانتخاب الجديد سيقر من دون التفاهم بشكل مسبق على عناوينه الرئيسة، والسؤال نفسه ينطبق على البيان الوزاري.
وعليه، فإن الاحتكام إلى الآلية الدستورية في انتخاب الرئيس من دون أن يكون انتخابه مقروناً بملحق سياسي يتضمن رؤية واضحة لمواجهة مرحلة ما بعد انتخابه، ما هو إلا محاولة للهروب إلى الأمام إن لم تحمل في طياتها أكثر من مؤشر إلى أن لبنان سيدخل في أزمة نظام سياسي تفتح الباب للبحث عن بدائل أحلاها مرّ إذا كان «المنفذ» الوحيد يكون في استحداث هيئة تأسيسية يوكل إليها وضع نظام بديل.
في ضوء تبيان الخيط الأسود من الخيط الأبيض واستحضار المحاذير من أي خطوة يراد منها القفز في المجهول، لا بد من القول -نقــلاً عن هؤلاء السياسيين- إن حرق المراحل لإعادة تحريك الاستحقاق الرئاسي لن يجدي نفعــاً، خصوصاً أن هناك من يحاول حشـــر الحريري في الزاوية وابتزازه ومن ثم استنزافه لإضعافه في داخل شارعه ولدى حلفائه، وتقديمه على أنه حسم قراره لمصلحة عون مع أن من يتولى الترويج لمثل هذه الإشاعات يدرك جيداً أن زعيم «المستقبل» لا يزال يستكشف الأجواء ولن يدخل في «مقايضة» لا تُصرَف في مكان وتستهدفه شخصياً قبل غيره وهو سيتفادى الوقوف في كمين سياسي كهذا.