«ضربة المعلم» كانت بإشاعة تأييد الحريري لعون. لكن «وصفة الأستاذ» كانت تحديد 31 تشرين الأول موعداً للجلسة التالية. هكذا، بات مكفولاً أنّ العماد ميشال عون سيصوم عن التصعيد في شهر التصعيد المفترض... وسينام على الأحلام السعيدة في نهايته!
كانت «حقنة» الحريري ناجعة جداً. وفي مدى أيام قليلة، استطاع تخدير عون، بالتنسيق المباشر وغير المباشر مع الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط، وعلى الأرجح النائب سليمان فرنجية أيضاً، إلى أن يزول «الغضب»، كما زال مراراً من قبل، وتمرُّ استحقاقات تشرين بهدوء.
لشهر تشرين الأول دلالاته في نظر الجمهور العوني. وكان مثالياً لبرمجة التصعيد. لكنّ «مبادرة» الحريري جعلت الرابية في نعيم. وكان الأربعاء الفائت، 28 أيلول، أهدأ أيام عون بدل أن يكون منطلق التصعيد. وهذا الهدوء مرشَّح للاستمرار إلى أن يسحب الحريري علناً مبادرته الجديدة. عندئذٍ فقط يعود عون إلى الغضب.
في ربيع 2014 وصَيفِهِ، دارت مفاوضات حامية بين الحريري وعون، مباشرةً وعبر القريبين، بين بيروت وباريس وروما والرياض. وخلالها نام عون مراراً بـ»رائحة الرئاسة». لكنّ الحريري حافظ على الوضعية الملتبسة، فلم ينطق يوماً بأنه يؤيّد وصول عون إلى بعبدا، لكنه أيضاً لم يقل «لا»!
في تلك الفترة، كان «حزب الله» الأكثر ارتياحاً. ترك عون يفاوض الحريري: «إذهب، لعلّك تنجح في إقناعه»! لكن «الحزب» يعرف جيداً أنّ الحريري لن يقتنع بعون، ولكن، من باب الاحتياط، إنّ بري وجنبلاط لا يقتنعان حتماً.
إحتارت الرابية كيف تفسِّر رفض الحريري أن يقول «نعم»... إلى أن جاءت الأيام لتتكفّل بالإيضاح: السكوت يعني «لا». فكان ردُّ عون صاعقاً في اتجاه «المستقبل». ووقف «حزب الله» يواسي عون ويتضامن معه، ويحمِّل الحريري المسؤولية عن إحباط انتخابه.
عندما تبنّى الحريري ترشيح فرنجية. بات «الحزب» أكثر ارتياحاً: فليتفق الحليفان المارونيان على انسحاب أحدهما للآخر. ولكن، عندما تبنّى جعجع ترشيح عون، أصيب «الحزب» بالإحراج لأنّ أحداً لا يصدّق بأنه لا يمون على فرنجية للانسحاب وعلى برّي لتأييد عون.
مارس عون فضيلة الصبر طويلاً قبل أن يبدأ بتفجير غضبه. ولكن، لم يعد لديه ما يخسره. وهو يعرف أنّ مشكلته تكمن داخل فريقه السياسي، لكنه يتجنّب التوتر مع «الحزب». وفي الفترة الأخيرة، أظهر العونيون توتراً شديداً، خصوصاً في الحكومة والحوار، وصل بهم إلى طرح الميثاقية والشراكة.
واستخدم الوزير جبران باسيل عبارة «الطلاق»، بعدما طرح السؤال: «نريد أن نعرف: هل تريدوننا أو لا»؟ وأطلق عون برنامجه التصعيدي في شهر الاستحقاقات في المجلس النيابي. فالرسالة تعني بري أولاً. وعلى الأرجح، يدرك «التيار» أنّ هذه الرسالة ستصل أيضاً إلى «الحزب».
إذاً، المطلوب اليوم هو «فَرملة» عون. ولذلك، تحركت ماكينة «الحلف الرباعي» إيّاه، التي تدير البلد منذ 2005، لتتولّى التنفيذ: الحريري يوحي إفتراضياً بأنه يقترب من عون، ويردُّ بري بأنه متمسّك بالسلة، أما فرنجية فيصرّ على المضيّ في ترشّحه. وهذه المعادلة تبقي المراوحة قائمة في الملف، فلا يتمّ انتخاب عون ولا فرنجيّة، وهي تتيح مجدداً لـ«حزب الله» أن يتنصّل من أي مسؤولية عن المأزق.
الحريري يستفيد من تهدئة الخطاب العوني تجاهه ويكرّس بعودته أنه جزء أساسي من اللعبة السياسية الداخلية. وبري يستفيد من إثبات أنّ رئاسة الجمهورية لا يمكن أن تمرّ إلا بموافقته، أي ضمن السلّة. كما يستفيد من تمرير الجلسات التشريعية بعيداً من التوتر. ويستفيد جنبلاط من دور الوسيط.
أما «حزب الله» فيستفيد من إطالة أمد «الستاتيكو» انتظاراً لظهور ملامح التسويات في سوريا واليمن وسواهما، والتي في ضوئها يتمّ إنتاج الصيغة المناسبة للتسوية في لبنان.
إذاً، الجميع يقول لعون: «روق وخلّينا نشتغل!». وقد «راق» عون وبدأت استحقاقات تشرين تسلك طريقها في هدوء، على التوالي:
1 - أُنجِز التمديد للعماد جان قهوجي، من دون مجلس وزراء، ومن دون أن ينفِّذ عون تهديداته بأن «يقيم الدنيا ويقعدها».
2 - ستمرُّ ذكرى 13 تشرين الأولى، التي ترمز أساساً إلى المواجهة مع سوريا، بالحد الأدنى من «نَبش للقبور» ليس الآن وَقته، خصوصاً أنّ التحالفات باتت اليوم مختلفة: حلفاء عون هم أنفسهم حلفاء دمشق التي خاض حربه معها، وجعجع كذلك.
3 - بعد أسبوعين، سيبدأ موسم الجلسات التشريعية. ومن المؤكد أنها ستمرّ بهدوء، بعد إرضاء عون والقوى المسيحية الأخرى ببعض التفاصيل، كما جرى في نهاية العام 2015.
4 - إنّ موعد الجلسة التالية، 31 تشرين الأول، يسبق موعد الانتخابات الأميركية بنحو أسبوع (8 تشرين الثاني). وبعده، سيكون العالم كله في انتظار ما سيأتي به السيّد الجديد للبيت الأبيض: ترامب أم كلينتون؟ أي انّ المسافة التي ستفصل الجلسة 46 المفترضة في 31 تشرين عن الجلسة 47 (المفترضة أيضاً) ستشهد انتظاراً مثيراً للمناخ الدولي.
وخلال تشرين الأول، ستبقى الرابية متفائلة بوجود فسحة أمل في انتخاب عون. لذلك، ستبقى على انتظارها الهادئ حتى إشعار آخر.
المتابعون يعتقدون أنّ الغالبية الساحقة من السياسيين اللبنانيين ليست مستعجلة لانتخاب رئيس للجمهورية، ولو أنّ كثيرين يتظاهرون بعكس ذلك من باب رفع العتب وإبعاد الشبهة بإهمال موقع الرئاسة بأبعاده الدستورية والميثاقية.
كما أنّ غالبية القوى الدولية والإقليمية المعنية بالوضع اللبناني لا تضع ملف الرئاسة اللبنانية في رأس أولوياتها. وما يهمها فقط هو أن يحافظ لبنان على استقراره في انتظار التسويات الإقليمية.
والفراغ في موقع الرئاسة لا يهدّد الاستقرار لأنّ دستور «الطائف» منح مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحية الرئيس بالوكالة في حال غيابه. كما أنّ المسيحيين المعنيين بهذا الموقع لم يعودوا في موقع القادر على التهديد بزعزعة الاستقرار إذا لم تتمّ الاستجابة لمطالبهم، كما كانوا في مراحل سابقة.
من سوء حظ رئاسة الجمهورية في لبنان أنها تخصّ المسيحيين ميثاقياً، لذلك «مكسورٌ ظَهرُها». ومن المؤكد أنها لو كانت تعني فئات أخرى فاعلة لكانت في ألف خير كما هي المواقع التي تشغلها اليوم هذه الفئات.
ومن سوء حظ رئاسة الجمهورية أيضاً أنّ كثيراً من قادة المسيحيين لا يعرفون قيمتها ولا يتصرَّفون بالشكل الذي يحفظها. وواقعياً، قد يموت هذا الموقع بفِعل الجهل أو بفِعل التجاهل، أو بالفعلين معاً.