بعد أن أفرغ كل الخيارات التي كانت لا تزال ممكنة خلال أكثر من خمس سنوات ونصف من مضمونها، يقوم أوباما الآن كما يدّعي بالبحث في "كل الخيارات المتاحة والممكنة" لمواجهة الجحيم القادم من السماء الذي يشنّه الروس مع النظام السوري والإيراني ضد من تبقّى من الصامدين في حلب وإدلب وباقي أنحاء سوريا بعد أكثر من نصف عقد من القصف المتواصل بكل أنواع الأسلحة باستثناء السلاح النووي.
في 27 أيلول/ سبتمبر، قال المتحدث باسم البيت الأبيض، جون إرنست، في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في حينه: فيما يتعلّق بالمجازر التي بحق المدنيين في حلب، فإن الرئيس أوباما "لا يزال يتلقى النصيحة والمشورة من فريق الأمن القومي بما في ذلك المسؤولين في وزارة الدفاع، وهو يراجع الخيارات المتاحة جميعها دون استثناء".
عن أي خيارات يتحدّث البيت الأبيض بعد أن كان قد رفضها جميعا دون استثناء خلال أكثر من 66 شهرا، بدءا من مقترحات وزارة الدفاع مرورا بمقترحات "سي آي إيه" وليس انتهاء بتوصيات مجلس الأمن القومي الخاص به للإطاحة بالأسد.
لقد استقال العديد من الوزراء والمسؤولين من إدارة أوباما خلال السنوات الماضية، بسبب رفضه الدائم الاستماع إلى النصائح والخيارات التي يقول إنّه يبحث عنها الآن في الوقت بدل الضائع.
جميع المعطيات المتوافرة حاليا تقول بأنّ أوباما لن يفعل شيئا لإيقاف روسيا وايران والأسد عند حدّهم، وحتى لو فعل شيئا مهما كان كبيرا وضخما وغير متوقع، فانه سيكون آنيا وتكتيكيا ولحفظ ماء الوجه لا أكثر، هذا على فرض أنّنا أفرطنا في التفاؤل وتوقّعنا معجزة ما في اللحظات الأخيرة. لكن السياق العام يشير إلى أنّ ما ساد سابقا سيبقى حاليا، لأسباب عدة، أهمّها:
1) علم الإدارة بما يتم التحضير له: قبل التوصّل إلى الهدنة الأخيرة، تمّ إبلاغ الجانب الأمريكي بضرورة رحيل المدنيين من حلب وفصل المعارضة السورية عن جبهة فتح الشام وتسليم أسلحتها، وإلا فإن موسكو ستقوم بإجبارهم على ذلك خلال أسبوعين.
قبل وخلال وعند انتهاء الهدنة المزعومة التي كان الجميع متأكّدا من فشلها بما في ذلك الجانب الأمريكي نفسه، أعطى مثلث روسيا وإيران والنظام السوري مؤشرات واضحة ومباشرة عن نيّتهم التصعيد ضد المدنيين تحديدا وضد المنشآت المدنيّة.
قامت روسيا بقصف قافلة المساعدات الإنسانيّة التابعة للأمم المتّحدة بعد أن تمّ منعها من الدخول دون موافقة نظام الأسد، وأدخلت إيران آلاف العناصر من المليشيات الشيعية خلال الهدنة، وأعلن النظام السوري انتهاءها من طرف واحد.
أوّل ما تمّ استهدافه حينها هو الدفاع المدني والمستشفيات المتبقيّة، ولو أنّ هذا الحلف الجهنمي لم يفعل أي شيء طوال خمس سنوات باستثناء هذه الأمور لكان ذلك كفيلا بتوليد ردّة فعل عالمية لإيقافه لكنّ هذا لم يحصل، وبقيت الإدارة تشاهد.
2) خطاب هذه الإدارة لا يحمل جديدا: كل ما فعلته للتعامل مع التصعيد العسكري الروسي، هو أنّها رفعت سقف جدلها الكلامي ضد موسكو وهددت بـ"إيقاف التواصل مع روسيا في الشان السوري" إن كان يصح أن نصف ذلك بأنّه تهديد أصلا.
بمعنى آخر، فان الجانب الامريكي يقول للجانب الروسي أوقفوا حملتكم العسكرية وإلا.. سنجلس جانبا وندعكم تكملون!
هذه الإدارة غير بارعة حتى في التمثيل، فالمناورات السياسية والإعلامية التي تقوم بها حاليا غير خلّاقة ومستهلكة ولا تتمتع بالمصداقية التي تجعل الخصم يصدّقها أو يعيد حساباته استنادا إليها.
في 28 أيلول/ سبتمبر، نشرت "رويترز" تقريرا يستند إلى تصريحات مسؤولين في إدارة أوباما تحت عنوان "الولايات المتحدة تقيّم ردا أقوى على روسيا في الأزمة السورية"، تضمن رسالة غير مباشرة إلى الجانب الروسي مفادها "قد لا يمكننا لاحقا منع وصول مضادات للطائرات إلى المعارضة السورية".
في حقيقة الأمر، إعترف مسؤولوا إدارة أوباما في هذا التقرير بأنّهم السبب في حرمان المعارضة طيلة هذه السنوات من مضادات الطائرات الأمر الذي ساهم في مقتل مئات الآلاف من المدنيين على يد تحالف الأسد وإيران وروسيا.
ولذلك، فمن غير المنطقي أن تقوم إدارة أوباما بفعل ما أصرّت على عدم فعله خلال أكثر من خمس سنوات.
الذرائع التي كانت تتحجّج بها الإدارة لمنع وصول المضادات لا تزال قائمة، ولم تتغيّر.
3) خيارات تكتيكيّة: الخيارات الأخرى هي بمثابة مسكّنات. بالنسبة إلى خيار فتح جبهات جديدة الآن، فهذا ممكن بالطبع، لكنّ الإدارة لن تسمح به بما يتعدى المطلوب من عودة جميع الأطراف إلى طاولة المفاوضات.
فالهدف الأساس للإدارة خلال ما تبقى لها من فترة زمنيّة (حوالي 90 يوما) هو تطبيق هدنة وتخفيف التصعيد وعودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات. هذه الأهداف تجعل أي خيار -وإن كان لا يزال ممكنا- مقيّدا ومحدود النتائج، ولا يتعدّى المستوى التكتيكي.
تهديدات إدارة أوباما بفعل شيء ما لا تحظى بأي مصداقيّة. لا يتعلّق الأمر فقط بمن بفترض فيهم أن يكونوا خصوما، بل يتعداه إلى الطيف الأمريكي ذاته.
السيناتور جون ماكين وليندسي جراهام أصدرا بيانا تهكّما فيه على تصريحات جون كيري التي هدد فيها روسيا بإيقاف التعاون معها إذا لم توقف القصف.
أمّا الجانب الروسي، فقد رفض حتى التهديدات الكلامية لإدارة أوباما، ورفض تطبيق هدنة لمدّة أسبوع، وزاد في إحراج الإدارة، في أنّه عبّر عن تصميمه الاستمرار في العملية العسكرية التي يقوم بها في حلب مع حلفائه.
السؤال الحقيقي، هل تريد الإدارة فعلا إيقاف الروس؟ وهل تمتلك الإرادة اللازمة لفعل ذلك؟ إذا ما استثنينا الجانب الإعلامي والرأي العام العالمي، فإن إدارة أوباما ليست متضررة بالشكل الذي يتصوّره كثيرون مما يقوم به الروس والإيرانيون والنظام السوري حاليا في حلب.
بل الأرجح أنّها تنظر إلى الموضوع على أنّه ورقة إضافيّة للضغط على المعارضة لجلبها إلى طاولة المفاوضات، وإجبارها على قبول التسوية السياسية المطروحة عليها، التي تتضمن بقاء الأسد، وأولوية محاربة "الإرهاب".
هذا هو الدور الذي لعبته الإدارة تحديدا خلال العام الأخير بعد سماحها بنزول روسيا عسكريا إلى الميدان السوري، تخيير المعارضة السورية بين قبول ما يملى عليها وبين الجحيم الروسي المقبل من السماء.